موسم مسلسلات رمضان... كيف تحوّل إلى سوق إنتاج كبير للمنصات الرقمية؟

تعيش الشاشات العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي عصراً ذهبياً في عالم الإنتاج الدرامي. وإن كان للأفلام أكثر من موسم تتنافس فيه، فقد ظل شهر رمضان الموسم المفضّل لمنتجي المسلسلات، إذ يحصد سنوياً حصة الأسد من مجمل ميزانيات الإنتاج التلفزيوني على مدار العام، حتى بات انتظار مسلسلات رمضان طقساً سنوياً للصائمين وغير الصائمين.

ومن تلفزيون حكومي وحيد في معظم الدول العربية إلى تلفزيونات محلية وعربية تتنافس في ما بينها، خرج الإنتاج الدرامي من التنافس على نطاق ضيّق إلى تنافس بميزانية خيالية لنجوم الدراما ومخرجيها، وباتت عبارة "سباق رمضان" هاجساً لصنّاع الدراما ونجومها، فحصر بعض النجوم أعمالهم في رمضان، وقامت بعض الشركات بإنتاج أجزاء لمسلسلات تنتظر شاشات شهر الصوم من عام إلى عام لعرض حلقاتها.

لم يكن صنّاع المسلسلات الرمضانيّة وفوازير رمضان ليتخيّلوا أن السباق الرمضاني سيكون بثقله الأكبر على منصّات رقميّة يتابعها المشاهدون عبر الشاشات والهواتف الذكية، كما هو حاصل منذ سنوات. التلفاز الذي كان يعود في رمضان إلى الحياة بعد ركود يدوم أحد عشر شهراً، يقع اليوم في مصيدة التطور التكنولوجي عبر بث معظم المسلسلات الرمضانية الضخمة، حصرياً أو كعرض أوّل، على منصات العرض الحديثة.

فكيف انتقل عالم إنتاج المسلسلات الرمضانية من شاشة التلفاز إلى شاشة الهاتف الذكي؟ وكيف ترجمت الأرقام هذا التغيير؟ على الرغم من أنّ هذا الانتقال لم يكن وليد سنة، وكانت بدايته في بعض المنصات من خلال إعادة عرض ما تبثه القنوات التلفزيونية التقليدية قبل البدء بإنتاجات حصرية للمنصات الرقمية، إلا أنه اليوم بات واضح المعالم من جهة الطلب على المشاهدات والإعلانات بنسب متفاوتة على كل من المحطات التلفزيونيّة ومنصّات المشاهدة حسب الطلب.

المنصّات الرقميّة… تحوّل في عالم المسلسلات

دخلت المنصّة العملاقة "نتفلكس"، إحدى أضخم المنصات الرقمية للمشاهدة حسب الطلب، العالم العربي عام 2016، لتكون معه بداية تحوّل نوع المشاهدة في المنطقة. قد تكون "نتفلكس" الأكثر انتشاراً حسب الأرقام، لكنّها ليست الأوّلى أو الوحيدة، إذ يُعدّ العالم العربي سوقاً كبيراً لهذه المنصّات ومنها OSN+، TOD، WATCHIT، AMAZON، STARZPLAY وغيرها. إلّا أنّ منصّة "شاهد" التابعة لمجموعة MBC السعوديّة، تُعدّ اليوم من الأكثر شعبيّةً ونموّاً، خاصّةً لدخولها عالم الإنتاج الدرامي العربي خلال الموسم الرمضاني.

نمت صناعة البث المباشر بسرعة مع زيادة بنسبة 30% في عدد المشتركين بين عامي 2020 و2021. بتصفّح الصفحة الرئيسيّة لمنصّة المشاهدة حسب الطلب VOD "شاهد"، يمكن ملاحظة أنّ أبرز المسلسلات المنتَجة خلال رمضان 2024 تُعرَض عليها.

بحسب الجدول أدناه، المبني على دراسة للسوق العربي أجرتها شركة Dataxis، تتصدّر "شاهد" السباق في عدد المشتركين في العالم العربي بالمقارنة مع أهم المنصّات الرقمية للمشاهدة حسب الطلب، فقد ازداد عدد المشتركين فيه من نحو مليونَي مشترك عام 2021، إلى 4.2 مليون مشترك عام 2024، بزيادة فاقت الـ50%. وتتوقّع الدراسة أن تتصدّر "شاهد" بحلول عام 2026 من حيث عدد المشتركين الذي قد يصل إلى 7 ملايين مشترك، أي إلى أكثر من ضعف المشتركين في منصّة OSN العالمية.

أمّا بالنسبة إلى آخر الأرقام المعلنة نهاية عام 2013، فقد أعلنت مجموعة MBC أن نسبة المشتركين في منصّة "شاهد"، ارتفعت بنسبة 40% على أساس سنوي، وبلغ عدد المشتركين 3.98 مليون مشترك بحلول نهاية العام 2023.
وأشارت MBC في بيانها إلى نمو صافي الربح بنسبة 44.8% على أساس سنوي، أي إلى 69 مليون ريال سعودي (18.5 ملايين دولار أمريكي)، متجاوزاً أهداف المجموعة، ويُعزى ذلك بحسب MBC في المقام الأول إلى "الانخفاض الكبير في صافي خسائر منصّة شاهد، والزيادة الكبيرة في حجم إعلانات المنصّة المفتوحة للفيديو حسب الطلب القائمة على الإعلانات (AVOD)، وأيضاً نمو قاعدة المشتركين في منصّة شاهد للفيديو حسب الطلب، القائمة على الاشتراك (SVOD). وبلغت هوامش صافي الدخل 2% خلال السنة المالية 2023".

وأشارت MBC في بيانها إلى نمو صافي الربح بنسبة 44.8% على أساس سنوي، أي إلى 69 مليون ريال سعودي (18.5 ملايين دولار أمريكي)، متجاوزاً أهداف المجموعة، ويُعزى ذلك بحسب MBC في المقام الأول إلى "الانخفاض الكبير في صافي خسائر منصّة شاهد، والزيادة الكبيرة في حجم إعلانات المنصّة المفتوحة للفيديو حسب الطلب القائمة على الإعلانات (AVOD)، وأيضاً نمو قاعدة المشتركين في منصّة شاهد للفيديو حسب الطلب، القائمة على الاشتراك (SVOD). وبلغت هوامش صافي الدخل 2% خلال السنة المالية 2023".

إذا أردنا تحليل الأرقام المذكورة أعلاه، والنظر إلى هذا التحوّل في نمط المشاهدة لصالح المنصات الرقمية على حساب مشاهدات التلفزيونات التقليدية، نرى أنّ هذا التحوّل يرتبط بشكل مباشر بالتطوّر التقني العالمي، وبمواكبة الشباب البالغين من العمر 35 سنةً أو أقل والذين يشكّلون نحو 70% من الجمهور العربي المشاهد. وعليه، يرجع نجاح منصّات الـVOD بشكل كبير إلى الإنتاج الضخم المترافق مع تلبية تطلّعات الجيل الجديد الذي يستخدم الهواتف لمشاهدة المسلسلات.

في هذا السياق، يقول الباحث عبد الرزاق حموش، إن "نمط المشاهدة في العالم العربي تغيّر منذ نشوء مواقع التواصل الاجتماعي التي يلجأ إليها الناس كبديل عن التلفاز للترفيه، وهذا الواقع يبشّر بمستقبل غامض للتلفزيون في خضم هذه المعطيات، بعدما دار النقاش سابقاً حول مستقبل الإعلام الورقي".

هل تهدد المنصّات الرقميّة الإنتاج التلفزيوني التقليدي؟

وتؤدي نسب المشاهدات العالية خلال شهر رمضان على المحطات الفضائية وتطبيقات المشاهدة حسب الطلب، إلى كثافة إعلانية، وهو ما يُفسر ارتفاع تكلفة الفقرات الإعلانية خلال رمضان ثلاثة أضعاف مقارنةً بالأشهر الأخرى وفق ما تظهره الاستطلاعات.
ومن المتوقع أن ينعكس ارتفاع نسب المشاهدات على المنصات الرقمية على السوق الإعلانية، فوفقاً لأحدث تحليل أجرته شركة Omdia، من المتوقع أن يصل حجم سوق إعلانات الفيديو عبر الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 2.3 مليارات دولار بحلول عام 2027.

ويوضح الرسم البياني أدناه أنه من المتوقع أن ينمو هذا السوق على حساب سوق الإعلانات المتلفزة الذي سيشهد نموّاً ضئيلاً بنسبة 13% بالمقارنة مع سوق إعلانات الفيديو الذي سينمو بنسبة 105%. وعليه، بات المموّل الأوّل للإنتاج المتلفز مهدداً بسبب نمو المنصات الرقمية التي قد تخرج مع الوقت من دائرة المنافسة إلى السيطرة على السوق بحسب الأرقام أدناه.

عودة إلى الواقع… سباق رمضاني متلفز

لا يُقلل ازدهار سوق الإعلانات والإنتاج على منصّات المشاهدة حسب الطلب، من ثقل الإنتاج التلفزيوني الذي يُغرق العالم العربي خلال شهر رمضان بأعداد كبيرة من المسلسلات الرمضانية التي تجذب نسباً عاليةً من المشاهدة. هذه الزيادة تحاكيها الأرقام أيضاً بالنسبة إلى عدد المسلسلات المنتَجة خلال السنة، في رمضان وخارجه.

وبلغت الزيادة في إنتاج المسلسلات الرمضانية في مصر بين العامين 2014 و2024، نحو الـ40%، وبالنظر إلى عدد المسلسلات خلال رمضان عام 2018، التي بلغ عددها 35 مسلسلاً من أصل 40 مسلسلاً تم إنتاجها خلال العام كلّه، يتّضح أن الإنتاج الدرامي، بدأ منذ سنوات عديدة، يرتكز بنسبة تقارب الـ90% على شهر واحد من السنة.

هذا الازدحام في عدد المسلسلات المنتَجة خلال فترة محدودة يُعدّ غريباً على الإنتاج العالمي الذي يتوزّع على مدار العام. وبحسب الصحافي ومنتج الأفلام هاني بشر: "مهما بلغت نسبة المشاهدة للأعمال التلفزيونية في شهر رمضان فلن تتناسب مع هذا الكم الإنتاجي الهائل من المسلسلات مما يعني أن الكثير من الأعمال الدرامية تُظلم من حيث التوزيع والانتشار وسط هذا الزحام الدرامي".

أمّا بالنسبة إلى الميزانيّة التي تخصصها شركات الإنتاج، فإن الأرقام في هذا الصدد قليلة، بحيث أن التكلفة الأكبر هي تلك المخصّصة للممثلين الذين لا يفصحون عن المبالغ التي يتقاضونها مقابل مشاركتهم في الأعمال الرمضانيّة. تشير أرقام تقريبية نشرها موقع "الشرق"، إلى أنّ ميزانية إنتاج المسلسلات المُشاركة في موسم دراما رمضان 2022، تجاوزت المليار جنيه مصري (نحو 54 مليون دولار أمريكي)، فيما استحوذت عشرة أعمال رئيسيّة من أصل 33 عملاً من الدراما المصريّة المنتَجة عام 2022، على 60% من إجمالي التكلفة.

الدراما في مختلف أنحاء العالم العربي

بعد سنوات من الإنتاج السوري المشترك نتيجة الحرب، عاد إنتاج الدراما السوريّة إلى الواجهة حيث عُرضت مسلسلات سورية كتابةً وتمثيلاً واخراجاً عبر شاشات التلفزيون السوري والعربي وعبر منصّة "شاهد". من هذه المسلسلات نذكر مسلسل "أولاد بديعة"، و"تاج"، و"العربجي 2"، و"بدون سابق إنذار" وغيرها من المسلسلات.
وقد بلغت تكلفة هذه الإنتاجات نحو 310 مليارات ليرة سورية، أي ما يساوي 22 مليون دولار، وهو رقم ضخم يترجم العودة القويّة لمسلسلات رمضان 2024 السورية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المسلسلات قد عُرضت على منصّة "شاهد" التي اشترت حقوق البث من المنتجين السوريين.

عقود من الإنتاج الدرامي العربي كان شهر رمضان ركيزتها، وبرغم كل المتغيرات في نمط المشاهدة ووسائطها، يبقى شهر الصوم مفضّلاً لمنتجي الدراما، وفي خضم التنافس بين التلفزيونات التقليدية والمنصات الرقمية، تبقى للمشاهد الكلمة الأخيرة لتحديد وجهة عرض الإنتاجات الدرامية. وإن كان من المبكر معرفة مصير التلفزيونات التقليدية في ظل تمدد المنصات وحصرية إنتاجاتها، إلا أن الأرقام تشير إلى أن السنوات المقبلة ستشهد ازدهاراً للإنتاج الحصري للمنصات. فهل تصمد الشاشات التقليدية أمامها، أم تصبح كما هو حاصل جزئياً اليوم، شاشات إعادة عرض لما تنتجه المنصات الرقمية؟

Previous
Previous

النضال نحو مشاركة فعّالة في البرلمان... ماذا أنجزت المرأة العربية؟

Next
Next

طفرة الجامعات الخاصة في لبنان… عن سياسة ضرب التعليم العالي وسياقها