طفرة الجامعات الخاصة في لبنان… عن سياسة ضرب التعليم العالي وسياقها
وفي تلك الفترة، أي فترة ما بعد الخمسينيات، جاء تأسيس جامعة بيروت العربية عام 1960، وتحديداً من قبل جمعية "البرّ والإحسان" في لبنان كمحاولة لإقامة توازن مع الجامعات الأجنبية الغربية والمسيحية التي اعتمدت على اللغة الأجنبية، ولتعكس الفكر القومي الرائج في تلك الفترة.
أما "الطفرة" الكبرى في تأسيس الجامعات، فكانت في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف عام 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية وأسس للنظام السياسي اللبناني الحالي. فمنذ ذلك الحين وحتى اليوم، تأسست 35 جامعةً في لبنان، وأيضاً كما جرت العادة، كان للمؤسسات والجمعيات ذات الطابع الديني والطائفي الدور الأساسي في تأسيسها. وتجدر الإشارة إلى أنّه من أصل 35 جامعةً، تأسست 19 جامعةً منها على يد مؤسسات وجمعيات وأحزاب وشخصيات ذات بعد طائفي سياسي واضح، و13 جامعةً عبر شركات مدنية أو جمعيات خاصة، إلى جانب افتتاح جامعتين أجنبيتين ومعهد للصليب الأحمر اللبناني كما يظهر في الجدول أدناه. وترافق هذا التوسع في الجامعات الخاصة مع مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة اللبنانية من قبل مجلس الوزراء، عبر القرار 42/1997 الذي صادر جزءاً من الصلاحيات الأكاديمية من مجلس الجامعة.
استفادة الجامعات الخاصّة من النظام الطائفي
ولم يكن هذا التغيير في حصة كل من القطاعَين مرتبطاً حصراً بتحسن جودة نوعية التعليم في مؤسسات التعليم العالي الخاص، إنما بالتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع اللبناني والمتأثرة بطبيعة آليات عمل النظام السياسي والاقتصادي التحاصصي اللبناني الطائفي، التي تعمل على تسليع القطاعات المنتجة بما فيها قطاع التعليم. ويمكن تحليل نوعية الطلاب المنتسبين إلى الجامعات الخاصة بالنظر إلى الهيئة السياسية أو الدينية التي أنشأت الصرح التعليمي بحيث تستقطب كل جامعة خاصة طلاباً يشبهون أو ينتمون إلى الخط الديني أو السياسي الذي تنشأ على أساسه الجامعة.
التحولات في ترتيب الجامعات من حيث عدد الطلاب
أبرز المخالفات لدى بعض الجامعات الخاصة
- فضيحة تزوير الشهادات في العام 2021، ضجّ الإعلام اللبناني بقرار عراقي يقضي بتعليق الاعتراف بشهادات الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم (القريبة من الحزب التقدمي الاشتراكي) وعدم التعامل معها، وجامعة الجنان (التي أسسها النائب الراحل الداعية فتحي يكن)، والجامعة الإسلامية في لبنان (المحسوبة على المجلس الشيعي والقريبة من "حزب الله"). وفي التفاصيل، تم الكشف عن أن الجامعة الإسلامية منحت ما لا يقل عن 27 ألف شهادة ماجستير ودراسات عليا مزورة إلى عراقيين قدموا للدراسة في لبنان بواسطة مكاتب وسماسرة يستفيدون من هذا التلاعب. إلا أن هذا الملف يبقى اليوم عالقاً كغيره من ملفات الفساد في لبنان في ظل استفادة عصابات السمسرة داخل وزارة التربية.
- فتح فروع لا تتمتع بمعايير المباني الجامعية تتطلب عملية فتح فروع جامعية الحصول على ترخيص من مجلس الوزراء بناءً على توصية من مجلس التعليم العالي، الذي يقوم بالتأكد من توافر المعايير والمواصفات الأكاديمية والهندسية والقانونية التي تسمح بفتح هذه الفروع، ووصل عدد الفروع غير المرخصة إلى 35 فرعاً في العام 2019. أبرز الممارسات التي تقوم بها هذه الجامعات يمكن تلخيصها بالآتي:
- اعتماد الجامعات الخاصة على سياسة تأجير رخصة الجامعة لمؤسسات وجمعيات وأشخاص لفتح فروع في المناطق.
- فتح فروع في مبانٍ لا تتمتع بالمواصفات والشروط المحددة في آلية فتح فروع جامعية، إذ يتم استئجار شقق في مبانٍ سكنية وتحويلها إلى صفوف جامعية.
- فتح فروع لا تتوافر فيها المعايير الأكاديمية لجهة مواصفات الهيئة التعليمية تبعاً للاختصاصات التي تُدرَّس.
- فتح اختصاصات جامعية دون الحصول على ترخيص يظهر التحدي مباشرةً في استحداث اختصاصات جامعية والبدء بالتدريس وتخريج دفعات من الطلاب دون الحصول على إذن من مجلس التعليم العالي. عمدت بعض الجامعات التي نشأت في مرحلة تسليع التعليم العالي بعد التسعينيات، إلى فتح اختصاصات وتخريج دفعات من الطلاب، من دون توافر المعايير الأكاديمية أو الحد الأدنى من جودة التعليم، حيث قبلت طلاباً لا تتناسب أوضاعهم الأكاديمية والمعايير المحددة لهذا النوع من الاختصاصات، واعتمدت على أساتذة لا تتوافر فيهم المعايير الأكاديمية، الأمر الذي وضع الطلاب "الخريجين" أمام مشكلة عدم حصولهم على شهادة الاختصاص، وعندما تمت تسوية أوضاعهم واجهوا مشكلةً في ممارسة مهنهم كما حصل مع طلاب الجامعة اللبنانية الفرنسية، بسبب رفض نقابة المهندسين قبول طلبات الانتساب إليها لعدم تمتعهم بالمؤهلات المطلوبة لممارسة مهنة الهندسة، وجامعة الجنان التي خرّجت دفعات من طلاب الصيدلة من دون حصولها على رخصة من وزارة التعليم وتالياً لم يُقبَلوا في نقابة الصيادلة.
أدى هذا الوضع إلى اتخاذ مجلس التعليم العالي قرارات بمنع الجامعة اللبنانية الفرنسية من استقبال طلاب جدد ببرامج الهندسة، وكذلك منعت الجامعة اللبنانية الكندية (LCU)، والجامعة الأمريكية للثقافة والتعليم (AUCE)، وجامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا (AUL)، من استقبال طلاب جدد في البرامج غير المرخصة.
ويواجه مجلس التعليم العالي صعوبات في اتخاذ قرارات بحق الجامعات الخاصة المخالفة بسبب الضغوط السياسية والطائفية التي يتعرض لها، والتي تمنعه حتى من تطبيق القرارات التي سبق أن تم اتخاذها منذ العام 2016.
- سياسة "تفريخ" شهادات الدكتوراه يبلغ عدد الجامعات التي تمنح شهادة الدكتوراه في لبنان 19 جامعةً، منها الجامعة اللبنانية، ويبلغ عدد الطلاب المسجلين في هذه المرحلة 7،833 طالباً، ويُظهر جدول عن العام الدراسي 2021-2022، أنه في الوقت الذي يبلغ فيه عدد طلاب الدكتوراه في الجامعة اللبنانية 1،440 طالباً، بنسبة تصل إلى 2% من مجموع الطلاب في الجامعة، و9% من مجموع طلاب مرحلة الماستر، فإن بعض الجامعات تتراوح فيها نسبة طلاب الدكتوراه بين 10و20% من طلاب الجامعة، وبين 34 و36% من طلاب الماستر في بعض الجامعات الخاصة. فجامعة مثل الجامعة اللبنانية الألمانية التي تأسست في العام 2008، مسجَّل فيها 73 طالب دكتوراه في الوقت الذي يبلغ عدد طلاب الماستر فيها 20 طالباً، والأمر نفسه يمكن أن نجده في مختلف الجامعات الخاصة، لا سيما في جامعة طرابلس، بيروت الإسلامية، كلية الإمام الأوزاعي، البلمند، اليسوعية، اللبنانية الألمانية والجامعة الإسلامية.
ما سبق غيضٌ من فيض رحلة الغوص في التعليم الخاص الجامعي، رحلة تطييف وتسليع التعليم العالي الذي يتم في الوقت الذي تستمر السلطة فيه في مسلسل تآمرها على الجامعة اللبنانية من خلال مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة، وعدم إقرار ملفَّي تفرغ الأساتذة المتعاقدين وتعيين العمداء، إلى جانب الحد من قدرتها عبر تقليص موازنتها.