طفرة الجامعات الخاصة في لبنان… عن سياسة ضرب التعليم العالي وسياقها

يُعدّ لبنان في التاريخ الحديث للمنطقة، مركزاً أساسياً للتعليم العالي، حيث شهد حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، تأسيس 6 جامعات على يد مؤسسات دينية مسيحية، أو هي كانت جزءاً من جامعات أجنبية ارتبط إنشاء فروع لها ببعثات إرساليات تبشيرية اعتمدت على التعليم لنشر أفكارها، كالجامعتين الأمريكية واللبنانية الأمريكية (سابقاً كلية بيروت الجامعية BUC) والجامعة اليسوعية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً حتى عام 1991، تم تأسيس 11 جامعةً، منها تسع جامعات أنشأتها مؤسسات دينية مثل الرهبانيات والبطريركيات والمجلس الشيعي الأعلى ودار الفتوى وجمعيات دينية أخرى.

وفي تلك الفترة، أي فترة ما بعد الخمسينيات، جاء تأسيس جامعة بيروت العربية عام 1960، وتحديداً من قبل جمعية "البرّ والإحسان" في لبنان كمحاولة لإقامة توازن مع الجامعات الأجنبية الغربية والمسيحية التي اعتمدت على اللغة الأجنبية، ولتعكس الفكر القومي الرائج في تلك الفترة.

أما "الطفرة" الكبرى في تأسيس الجامعات، فكانت في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف عام 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية وأسس للنظام السياسي اللبناني الحالي. فمنذ ذلك الحين وحتى اليوم، تأسست 35 جامعةً في لبنان، وأيضاً كما جرت العادة، كان للمؤسسات والجمعيات ذات الطابع الديني والطائفي الدور الأساسي في تأسيسها. وتجدر الإشارة إلى أنّه من أصل 35 جامعةً، تأسست 19 جامعةً منها على يد مؤسسات وجمعيات وأحزاب وشخصيات ذات بعد طائفي سياسي واضح، و13 جامعةً عبر شركات مدنية أو جمعيات خاصة، إلى جانب افتتاح جامعتين أجنبيتين ومعهد للصليب الأحمر اللبناني كما يظهر في الجدول أدناه. وترافق هذا التوسع في الجامعات الخاصة مع مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة اللبنانية من قبل مجلس الوزراء، عبر القرار 42/1997 الذي صادر جزءاً من الصلاحيات الأكاديمية من مجلس الجامعة.

استفادة الجامعات الخاصّة من النظام الطائفي

يبلغ عدد مؤسسات التعليم العالي الخاصة المرخصة في لبنان، 52 مؤسسةً، وتتوزع بين 38 جامعةً، و8 كليات جامعية، و6 معاهد جامعية. وتُظهر متابعة الوضعية القانونية للمؤسسات الجامعية وفق المركز التربوي للبحوث والإنماء، أن بعضها قد شهد تحولاً منذ مرحلة ما بعد الطائف، حيث يظهر أن 10 معاهد مهنية عليا قد تحولت إلى مؤسسات جامعية، 6 منها تحولت إلى جامعات، و4 تحولت إلى كليات. ويُظهر التدقيق في أسماء المؤسسات التي شهدت هذا التحول، أن بعضها يعود إلى مؤسسات دينية أو جمعيات مسيحية وإسلامية على حد سواء، وبنسب متساوية.
تُعدّ الجامعات الخاصّة في لبنان مرآة النظام التحاصصي الطائفي بحيث يستفيد بعضها من الوضع الحالي للجامعة اللبنانية لاستقطاب الطلاب وانتسابهم إليها. لذا ارتفعت نسبة التعليم العالي الخاص من التعليم الجامعي العام من 41% في العام 2001-2002، إلى 64% في العام 2021-2022. في المقابل، تراجعت حصة الجامعة اللبنانية من 59% إلى 34% خلال الفترة نفسها.

ولم يكن هذا التغيير في حصة كل من القطاعَين مرتبطاً حصراً بتحسن جودة نوعية التعليم في مؤسسات التعليم العالي الخاص، إنما بالتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع اللبناني والمتأثرة بطبيعة آليات عمل النظام السياسي والاقتصادي التحاصصي اللبناني الطائفي، التي تعمل على تسليع القطاعات المنتجة بما فيها قطاع التعليم. ويمكن تحليل نوعية الطلاب المنتسبين إلى الجامعات الخاصة بالنظر إلى الهيئة السياسية أو الدينية التي أنشأت الصرح التعليمي بحيث تستقطب كل جامعة خاصة طلاباً يشبهون أو ينتمون إلى الخط الديني أو السياسي الذي تنشأ على أساسه الجامعة.

التحولات في ترتيب الجامعات من حيث عدد الطلاب

يُظهر تتبّع واقع مؤسسات التعليم العالي الخاص، التحولات الكبيرة التي حصلت في تركيبة الجامعات العشر الأكبر من حيث عدد الطلاب، فبعد أن كانت هذه الجامعات تستقطب 65% من طلاب التعليم العالي الخاص في العام الدراسي 2014-2015، في مقابل 35% للجامعات الأربعين الأخرى، يظهر أن حصة هذه الجامعات قد وصلت في العام 2021-2022، إلى 72%، محققةً ارتفاعاً بنسبة 7%، في مقابل انخفاض حصة الجامعات الأخرى إلى 28%. وعلى الرغم من أن جزءاً من هذه الزيادة قد تحقق على حساب الجامعة اللبنانية، يلاحَظ التراجع الحاصل في قدرة غالبية الجامعات الخاصة على استقطاب الطلاب بعد سلسلة المشكلات التي عانت منها والفضائح التي تكشفت خلال السنوات العشر الأخيرة.
واللافت في هذا الترتيب، الصعود البارز للجامعات ذات الطابع الإسلامي، والتي تقع أقساطها ضمن قدرة الأفراد على دفعها، مثل الجامعة اللبنانية الدولية، الجامعة الإسلامية وجامعة الجنان، والتي تشكل وحدها نسبة 56% من الجامعات العشر الأولى، ونسبة 40.4% من إجمالي التعليم العالي الخاص. وهذا التحول لا يمكن ربطه فقط بمسائل داخلية تتعلق بالجامعات نفسها، بل بالتغييرات السياسية في الواقع اللبناني في ظل التدهور الاقتصادي، بالإضافة إلى تراجع قدرة اللبنانيين على دفع الأقساط العالية للجامعات الخاصة ذات التصنيف الأعلى، مثل الجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة اللبنانية الأمريكية والجامعة اليسوعية وغيرها.
إلا أن أعداد الطلاب بدأت بعد فترة بالتراجع بنسب تتراوح بين 30 و50%. وتُظهر معطيات العام الدراسي 2021-2022 لدى المركز التربوي للبحوث والإنماء، أن عدد الطلاب في 26 مؤسسة تعليم عالٍ هو 13،046 طالباً، أي بمتوسط قدره 500 طالب لكل مؤسسة، على الرغم من أن بعضها يضم كليات عدة ويغطي مراحل التعليم من الإجازة وحتى الدكتوراه. وتشهد هذه الجامعات تراجعاً برغم كل الإغراءات التي تقدمها عبر المنح والحسومات، والتسهيلات التي تصل إلى حد التلاعب بالمعايير الأكاديمية لشروط الاختصاصات التي يتم التسجيل فيها، أو التسهيلات اللاحقة التي تسهّل التخرّج والنجاح في بعض الجامعات الخاصة، إلى جانب عمليات التسجيل الوهمية وإعطاء شهادات جامعية مزوّرة.

أبرز المخالفات لدى بعض الجامعات الخاصة

وإذا كانت هذه هي الصورة التي تقدمها المعطيات الإحصائية، فإن متابعة هموم وقضايا التعليم العالي تبرز حجم المخالفات المرتكبة في هذا القطاع، والتي تتمحور حول فتح اختصاصات جديدة من دون الحصول على التراخيص المسبقة، أو فتح فروع في مناطق من دون الحصول على الموافقات المطلوبة، أو التلاعب بنوعية التعليم والإقدام على تزوير الشهادات وبيعها، إلى جانب تسهيل الحصول عليها من غير المستحقين لها.
  1. فضيحة تزوير الشهادات في العام 2021، ضجّ الإعلام اللبناني بقرار عراقي يقضي بتعليق الاعتراف بشهادات الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم (القريبة من الحزب التقدمي الاشتراكي) وعدم التعامل معها، وجامعة الجنان (التي أسسها النائب الراحل الداعية فتحي يكن)، والجامعة الإسلامية في لبنان (المحسوبة على المجلس الشيعي والقريبة من "حزب الله"). وفي التفاصيل، تم الكشف عن أن الجامعة الإسلامية منحت ما لا يقل عن 27 ألف شهادة ماجستير ودراسات عليا مزورة إلى عراقيين قدموا للدراسة في لبنان بواسطة مكاتب وسماسرة يستفيدون من هذا التلاعب. إلا أن هذا الملف يبقى اليوم عالقاً كغيره من ملفات الفساد في لبنان في ظل استفادة عصابات السمسرة داخل وزارة التربية.
  1. فتح فروع لا تتمتع بمعايير المباني الجامعية تتطلب عملية فتح فروع جامعية الحصول على ترخيص من مجلس الوزراء بناءً على توصية من مجلس التعليم العالي، الذي يقوم بالتأكد من توافر المعايير والمواصفات الأكاديمية والهندسية والقانونية التي تسمح بفتح هذه الفروع، ووصل عدد الفروع غير المرخصة إلى 35 فرعاً في العام 2019. أبرز الممارسات التي تقوم بها هذه الجامعات يمكن تلخيصها بالآتي:
    • اعتماد الجامعات الخاصة على سياسة تأجير رخصة الجامعة لمؤسسات وجمعيات وأشخاص لفتح فروع في المناطق.
    • فتح فروع في مبانٍ لا تتمتع بالمواصفات والشروط المحددة في آلية فتح فروع جامعية، إذ يتم استئجار شقق في مبانٍ سكنية وتحويلها إلى صفوف جامعية.
    • فتح فروع لا تتوافر فيها المعايير الأكاديمية لجهة مواصفات الهيئة التعليمية تبعاً للاختصاصات التي تُدرَّس.
  1. فتح اختصاصات جامعية دون الحصول على ترخيص يظهر التحدي مباشرةً في استحداث اختصاصات جامعية والبدء بالتدريس وتخريج دفعات من الطلاب دون الحصول على إذن من مجلس التعليم العالي. عمدت بعض الجامعات التي نشأت في مرحلة تسليع التعليم العالي بعد التسعينيات، إلى فتح اختصاصات وتخريج دفعات من الطلاب، من دون توافر المعايير الأكاديمية أو الحد الأدنى من جودة التعليم، حيث قبلت طلاباً لا تتناسب أوضاعهم الأكاديمية والمعايير المحددة لهذا النوع من الاختصاصات، واعتمدت على أساتذة لا تتوافر فيهم المعايير الأكاديمية، الأمر الذي وضع الطلاب "الخريجين" أمام مشكلة عدم حصولهم على شهادة الاختصاص، وعندما تمت تسوية أوضاعهم واجهوا مشكلةً في ممارسة مهنهم كما حصل مع طلاب الجامعة اللبنانية الفرنسية، بسبب رفض نقابة المهندسين قبول طلبات الانتساب إليها لعدم تمتعهم بالمؤهلات المطلوبة لممارسة مهنة الهندسة، وجامعة الجنان التي خرّجت دفعات من طلاب الصيدلة من دون حصولها على رخصة من وزارة التعليم وتالياً لم يُقبَلوا في نقابة الصيادلة.

أدى هذا الوضع إلى اتخاذ مجلس التعليم العالي قرارات بمنع الجامعة اللبنانية الفرنسية من استقبال طلاب جدد ببرامج الهندسة، وكذلك منعت الجامعة اللبنانية الكندية (LCU)، والجامعة الأمريكية للثقافة والتعليم (AUCE)، وجامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا (AUL)، من استقبال طلاب جدد في البرامج غير المرخصة.

ويواجه مجلس التعليم العالي صعوبات في اتخاذ قرارات بحق الجامعات الخاصة المخالفة بسبب الضغوط السياسية والطائفية التي يتعرض لها، والتي تمنعه حتى من تطبيق القرارات التي سبق أن تم اتخاذها منذ العام 2016.

  1. سياسة "تفريخ" شهادات الدكتوراه يبلغ عدد الجامعات التي تمنح شهادة الدكتوراه في لبنان 19 جامعةً، منها الجامعة اللبنانية، ويبلغ عدد الطلاب المسجلين في هذه المرحلة 7،833 طالباً، ويُظهر جدول عن العام الدراسي 2021-2022، أنه في الوقت الذي يبلغ فيه عدد طلاب الدكتوراه في الجامعة اللبنانية 1،440 طالباً، بنسبة تصل إلى 2% من مجموع الطلاب في الجامعة، و9% من مجموع طلاب مرحلة الماستر، فإن بعض الجامعات تتراوح فيها نسبة طلاب الدكتوراه بين 10و20% من طلاب الجامعة، وبين 34 و36% من طلاب الماستر في بعض الجامعات الخاصة. فجامعة مثل الجامعة اللبنانية الألمانية التي تأسست في العام 2008، مسجَّل فيها 73 طالب دكتوراه في الوقت الذي يبلغ عدد طلاب الماستر فيها 20 طالباً، والأمر نفسه يمكن أن نجده في مختلف الجامعات الخاصة، لا سيما في جامعة طرابلس، بيروت الإسلامية، كلية الإمام الأوزاعي، البلمند، اليسوعية، اللبنانية الألمانية والجامعة الإسلامية.
واللافت في الأمر أن الهيئات التعليمية المتفرغة في هذه الجامعات الخاصة لا تتمتع بالمواصفات التي تؤهلها للإشراف على أبحاث طلاب الماستر والدكتوراه، لذا تعمد الجامعات تلك إلى التعاقد مع أساتذة الجامعة اللبنانية، مستغلةً ظروفهم المادية الصعبة، من أجل تسجيل أكبر عدد ممكن في المراحل التعليمية العليا، ومستغلةً القرار الذي اتخذه مجلس الجامعة اللبنانية في العام 2016-2017، القاضي بتحديد أعداد الطلاب الذين يحق لهم التسجيل في مرحلة الدكتوراه من أجل الحفاظ على مستوى هذه الشهادة، من جهة، وارتباطاً بحاجة المجتمع من جهة أخرى.

ما سبق غيضٌ من فيض رحلة الغوص في التعليم الخاص الجامعي، رحلة تطييف وتسليع التعليم العالي الذي يتم في الوقت الذي تستمر السلطة فيه في مسلسل تآمرها على الجامعة اللبنانية من خلال مصادرة صلاحيات مجلس الجامعة، وعدم إقرار ملفَّي تفرغ الأساتذة المتعاقدين وتعيين العمداء، إلى جانب الحد من قدرتها عبر تقليص موازنتها.

Previous
Previous

موسم مسلسلات رمضان... كيف تحوّل إلى سوق إنتاج كبير للمنصات الرقمية؟

Next
Next

Empowering Market Researchers in Lebanon