ضحايا الهجرة عبر المتوسط بالآلاف... هذه هي مسارات الموت للباحثين عن النجاة

عام 2015، هزّت صورة الطفل الغريق "آلان كردي"، ضمير العالم، إذ أظهرت جثّته ملقاةً على شاطئ قرب منطقة بودروم التركيّة. الطفل ذو السنوات الثلاث لم يكن الأوّل، ولن يكون الأخير من المهاجرين الذين يختارون البحر الأبيض المتوسّط للهرب من مستنقع الشرق إلى أوروبا. بحسب تقرير المنظمة الدولية للهجرة IOM، فإنَّ 27 ألف مهاجر لقوا حتفهم غرقاً في البحر الأبيض المتوسّط في السنوات العشر الأخيرة، ليكون هذا البحر بذلك الأكثر ابتلاعاً للمهاجرين في العالم.

السياق التاريخي والوضع الحالي

يتوسّط البحر الأبيض المتوسّط العالمين الشمالي (أوروبا)، والجنوبي (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، وشكّل بذلك صلة وصلٍ، وتفرقة بين الشاطئين عبر التاريخ. أمّا الهجرة عبره، خاصّةً "غير النظامية" منها، فعلى قِدَمِها في التاريخ، إلّا أنّها أخذت حيّزاً كبيراً خلال القرن الماضي نتيجة الصراعات والحروب والتغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
وفي الآونة الأخيرة، أي منذ منتصف التسعينيات على الأقل، يعبر آلاف الأشخاص سنوياً البحر الأبيض المتوسط، بالقوارب من السواحل الشمالية لأفريقيا وتركيا، لطلب اللجوء أو الهجرة إلى أوروبا إذا لم تكن لديهم الوثائق المطلوبة من قبل الدول المقصودة. وجدير بالذكر أن البحر الأبيض المتوسط هو المكان الذي تكون فيه الهجرة غير النظامية إلى أوروبا أكثر وضوحاً.
شكّل العام 2014، نقطةً مفصليةً في قضيّة الهجرة غير النظامية عبر البحر الأبيض المتوسّط، إذ سجّل مرصد "الموت على الحدود الأوروبيّة الجنوبيّة" التابع لجامعة أمستردام ما بين 1990 وحتى 2013، نحو 3،190 حالة غرق لمهاجرين غير نظاميين عبر البحر المتوسّط. هذا الرقم يوازي حالات الغرق المسجّلة عام 2014 وحده (3،289 حالة موت أو فقدان بسبب الغرق).

في محاولةٍ لفهم الأرقام وتغيّراتها بحسب السنوات، فقد بلغ عدد الواصلين إلى أوروبا عبر المتوسّط، خلال العام 2014 وحده، 220 ألفاً، أي ما يقارب ضعف العدد الإجمالي للواصلين بين عامي 2011 و2013، والذي بلغ 121 ألفاً. وخلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2015، بلغ العدد 137 ألفاً، مقارنةً بـ75 ألفاً خلال النصف الأول من 2014. هذه الأرقام ما هي إلّا مرآة للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدول العربيّة والإفريقية خلال تلك الأعوام. في سوريا مثلاً، يمثّل العامان 2014 و2015 ذروة الحرب فيها، وذروة تغوّل نظام الرئيس السوري بشار الأسد في حربه على جزء من شعبه، بالإضافة إلى سيطرة داعش على مساحات شاسعة في سوريا والعراق، بالإضافة إلى التغييرات السياسية الكبيرة في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، لا سيّما الأحداث في مصر حيث أطيح بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، والانقسام الحكومي في ليبيا، وبلورة الحكم الجديد في تونس، وغيرها من التحدّيات على صعيد المنطقة والتي تُعدّ دوافع للهجرة.

الأعداد القياسية عام 2015، لم تكن سوى مقدّمة لموجات من الهجرة عبر المتوسّط حيث شهدت أوروبا 1،972،197 محاولة لدخولها عبر البحر المتوسّط. ما بين العام 2016 و2024، نجح 1،358،11 مهاجراً، أي 69% منهم في الدخول إلى أوروبا. تمكنت الشرطة البحرية (التابعة لدول العبور والوصول)، من منع نحو 591،952 مهاجراً، أي 30% منهم وإعادتهم، في حين سُجلت 22،234 حالة موت أو فقدان في المدّة عينها، أي 1% من إجمالي المهاجرين. ويبقى هذا العدد صادماً ومؤثّراً، ويعبّر هذا الرقم عن أعداد أرواحٍ فُقدت خلال محاولتها الحصول على حياةٍ أفضل في العالم "الأوّل" الذي يفصلها عنه البحر.

في محاولة لفهم المسارات التي يأخذها المهاجرون للوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، تقسم المنظمة الدولية للهجرة مسارات الهجرة غير النظامية إلى ثلاث مسارات رئيسيّة:

المسار الشرقي... تركيا كنقطة انطلاق

المسار الشرقي هو المسار الذي يتّخذه المهاجرون من تركيا إلى اليونان كوجهة رئيسيّة، أو إلى قبرص وبلغاريا كخيارات ثانية. استُخدم بشكلٍ رئيسي للدخول غير النظامي إلى أوروبا في عام 2015، حيث حاول ما يقرب من مليون مهاجر عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا عبره. انخفض عدد الأشخاص الذين يستخدمون هذا المسار البحري بشكل حاد بعد تنفيذ الاتفاقية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في أواخر آذار/ مارس 2016، ومنذ ذلك الحين بقي عددهم أقل بكثير مما كان عليه في عام 2015. عموماً، يختار هذا المسار المهاجرون القادمون من الشرق الأوسط وجنوب آسيا الذين يفرّون من الصراع وعدم الاستقرار، لا سيما في ظل الحرب السوريّة والأزمات في لبنان والعراق وأفغانستان. وتالياً، تعكس أرقام العابرين من خلال المسار الشرقي الأوضاع والمتغيّرات السياسية والاقتصادية لدول شرق البحر المتوسّط، كسوريا والعراق ولبنان، ما يفسّر الذروة التي وصلتها في عام 2015 مع تدهور الأحوال في المنطقة.
وقّعت تركيا عام 2016، اتفاقيةً مع الاتحاد الأوروبي "لمكافحة" الهجرة غير النظامية مقابل 6 مليارات يورو من المساعدات المقدّمة لتركيا. تُرجمت الاتفاقية بانخفاض أعداد العابرين إلى أوروبا عبر تركيا، لتعود وترتفع عام 2019 مع ظهور خلافات بين الطرفين على خلفية آليات الإفراج عن المساعدات لصالح تركيا. تظهر هنا علامات استفهام حول استعمال اللاجئين كورقة ضغط سياسية بين دول الانطلاق ودول الوجهة.

المسار المركزي... طريق الموت

المسار المركزي هو المسار الذي يربط ليبيا وتونس بإيطاليا ومالطا. يُعدّ هذا المسار أخطر طريق هجرة في العالم، حيث تم تسجيل أكثر من 23،692 حالة وفاة واختفاء من قبل "مشروع المهاجرين المفقودين" الذي أنشأته منظّمة الهجرة الدولية، منذ عام 2014. يعود ذلك إلى طول الرحلة البحرية التي قد تستغرق أياماً، بالإضافة إلى أنماط التهريب الخطيرة المتزايدة، والفجوات في القدرة على البحث والإنقاذ، والقيود المفروضة على الأعمال الإنسانية التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية. غالباً ما يعبر المهاجرون المتوسط المركزي في قوارب مطاطية غير صالحة للإبحار ومحمّلة بأكثر من طاقتها.

المسار المتوسط المركزي هو أيضاً الطريق الذي شهد أكبر عدد من حالات الاختفاء، برغم أنه من المرجح أن وفيات كثيرةً لم يتم تسجيلها. وتشير بيانات "مشروع المهاجرين المفقودين" منذ عام 2014، إلى أن رفاة أكثر من 12،000 شخص قد فُقدت في البحر على هذا المسار. أمّا في العام 2023 وحده، فتمّ تسجيل أكثر من 114،300 محاولة هجرة في الأشهر الثمانية الأولى، وهو الرقم الأعلى منذ العام 2016 وما رافقه من أزمة على المسلك الشرقي. وفي تموز/ يوليو من العام 2023، وقّع الاتحاد الأوروبي بحضور رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، مذكرة تفاهم لإرساء "شراكة إستراتيجية شاملة" مع تونس بهدف تقليص عدد المهاجرين الوافدين من هذا البلد، مقابل توفير مساعدات تبلغ مئات الملايين من اليورو. بحسب تقرير أعدّه مركز كارنيغي عن المسار المركزي، "قد تستمرّ دول العبور في غضّ الطرف عن الهجرة غير النظامية إذا كانت تساعدها في تحقيق أهداف سياسية أو مالية أو جيو-سياسية يصعب بلوغها بوسائل أخرى". ولعلّ هذه الإستراتيجية هي التي تعتمدها دول مثل تونس وليبيا في سياسة التعامل مع المهاجرين.

المسلك الغربي... مضيق جبل طارق

أما المسار الغربي، فهو المسار الذي يسلكه المهاجرون من شمال غرب أفريقيا (المغرب والجزائر)، للدخول إلى جنوب أوروبا عبر إسبانيا، والذي يشكّل مضيق جبل طارق ومدينتي سبتة ومليلا المدخل إليها. منذ عام 2014، تم تسجيل أكثر من 2،000 حالة وفاة واختفاء للمهاجرين في البحر الأبيض المتوسط الغربي، حيث تضمنت الغالبية العظمى منها حوادث غرق السفن في الطريق البحري إلى البرّ الرئيسي الإسباني. في حالات عدة، وقعت وفيات عرضية وعنيفة عند أسوار الحدود لهذه الجيوب الإسبانية بسبب محاولات العبور. يسلك هذا المسار المهاجرون القادمون من المغرب ومالي والسنغال بالأكثرية.
ساهمت سياسات دول الاتحاد الأوروبي التي يتوجّه إليها المهاجرون، بالتعاون مع دول الانطلاق على شواطئ البحر المتوسّط من أقصى شرقه إلى أقصى غربه، في منع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا، ولو كان الثمن حياتهم. يظهر ذلك من خلال الاطّلاع على الأرقام في الجدول أعلاه. عام 2015، بلغ عدد المفقودين 3،771 مهاجراً من أصل مليون. عام 2023، بلغ عدد المفقودين 4،110 (عدد قريب جدّاً من ذلك عام 2013)، من أصل 2،270 ألف مهاجر. إن نسبة المفقودين والمتوفين من أصل العابرين ارتفعت إلى 80% بين العامين 2015 و2023، ما يفسّر التعامل الوحشي مع العابرين إلى أوروبا خلال الفترة الأخيرة.
تجدر الإشارة إلى أنّ 60% من حالات الغرق والموت والفقدان تحصل في المسار الأوسط، أي بين ليبيا وإيطاليا. في هذا الصدد، وثّقت منظّمة العفو الدولية انتهاكات وعمليات غرق متعمّد نفّذتها القوات الليبية بحق المهاجرين المتجهين نحو إيطاليا بهدف منعهم، ضمن عملية "صوفيا" الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي. فهل تحمي أوروبا نفسها من المهاجرين بتفويض غيرها بالأعمال "القذرة"؟

يقف المهاجرون على الشاطئ، ويحدّقون: البحر من أمامهم، والفقر والحرب من ورائهم، ولهم أن يختاروا: وحده الموت يحيط بهم من كل الجهات. كيف سيتعامل العالم مع موجات الهجرة المتزايدة سنةً بعد سنة؟

تبقى الأرقام هي الأوضح في موضوع الهجرة غير النظامية، والأرقام توضح أن الظروف القاهرة في دول عالم الجنوب تدفع بمواطنيها نحو البحر، في حين تدفعهم أوروبا في الاتجاه المعاكس.

Next
Next

هل "العودة إلى المدرسة" فترة يخشاها الأهل أم ينتظرونها؟