نمو اقتصادي في ظل "جهود الانفتاح"... متى تُصبح السعودية قبلةً سياحية؟
والسياحة في السعودية، المرتبطة تاريخياً بموقعها وأهميّتها الدينية، بدأت تشهد نهضةً بعد عقود طويلة ظلّت السياحة خلالها مغلقةً أمام السيّاح الدوليين الذين كانوا يترددون في استكشاف بلاد كانت منغلقةً على أكثر من صعيد، وأبرز ما كان يظهر إلى العلن منها في حينه، دور هيئة الأمر بالمعروف القمعي بحق المواطنين والمواطنات والمقيمين والمقيمات.
اليوم، اختلفت النظرة السعودية إلى السياحة ودورها، وأصبح تطوير السياحة من الركائز المهمّة للنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، خصوصاً أن المملكة تتمتع بمقوّمات ومزايا تنافسية مثل تعدّد المواقع الأثرية الجميلة وتنوّعها (منها 6 مدرجة على لائحة اليونيسكو)، والمساحة الشاسعة التي توازي عشرات أضعاف مساحة البلدان المجاورة لها (2.25 مليون كلم2).
حالياً، تُعد السعودية المستثمر الأكبر عالمياً في قطاع السياحة. وقد خصّصت 550 مليار دولار لوجهات جديدة تستقبل زوّارها بحلول عام 2030؛ وستستثمر أكثر من 800 مليار دولار في صناعة السياحة خلال السنوات العشر القادمة. وقد تمكّنت السعودية من جذب نحو 13 مليار دولار من استثمارات القطاع الخاص في القطاع السياحي، ضمن هدف تقاسم تكلفة الإنفاق المرتبطة بخطتها لتصبح نقطة جذب جديدةً للسفر. كما نفّذت المملكة مجموعةً شاملةً من الإصلاحات وبرامج الاستثمار بهدف إرساء قطاع السياحة كمساهم رئيسي في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي.
الأهداف الإستراتيجية وما تحقّق منها
جذب 100 مليون سائح سنوياً
احتفت المملكة بالوصول إلى هذا الرقم أواخر عام 2023، محققةً ذلك في وقت قياسي، ما رفع سقف الطموح نحو الوصول إلى 150 مليون سائح بحلول العام 2030. ومع 16.6 ملايين زائر أجنبي عام 2022، صعدت السعودية 12 مرتبةً لتحتل المركز الثالث عشر في تصنيف منظمة السياحة العالمية، متجاوزةً موقعها قبل جائحة كورونا الذي كان في المرتبة الخامسة والعشرين. كذلك الأمر في مؤشر السفر والسياحة الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، حيث حقّقت السعودية ثاني أكبر تحسّن بين 117 دولةً مشمولةً في التصنيف، وتقدّمت إلى المركز الثالث والثلاثين من المركز الثالث والأربعين بين عامي 2019 و2021.
توزيع نسبة 45% للسياحة الداخلية و55% للسياحة الدولية
تعرّف وزارة السياحة السائح بأنه كل زائر (محلي أو وافد أو مغادر)، تضمّنت رحلته المبيت ليلة واحدة على الأقل في البلد أو المكان محل الزيارة. وقد بيّنت أن السعودية استقبلت 27 مليون سائح دولي عام 2023 (25% من مجموع السيّاح) ما يمثل زيادةً ملحوظةً بنسبة 65% مقارنةً بعام 2022، وذلك مقابل زيادة قدرها 2% فقط للسياحة الداخلية (79 مليون سائح محلي) مقارنةً مع العام السابق وتسعى إلى رفع عدد السيّاح الدوليين إلى نحو 70 مليوناً بحلول عام 2030 مقابل 68 مليون سائح داخلي.
زيادة مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 10%
بناءً على تصريح وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب، وصلت مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة العربية السعودية عام 2023، إلى 8% متوقعاً أن تصل هذه المساهمة إلى 10% في عام 2030. ونظراً إلى ارتفاعها المضطرد، فقد تم تعديلها لتصل إلى 15% بحلول 2030.
أما بالنسبة إلى الإنفاق، ففي العام المالي الذي انتهى في الربع الثالث من عام 2023، سجلت السعودية إنجازاً في الإنفاق من قبل الزوّار. وفقاً لبيانات الإنفاق السياحي ضمن ميزان المدفوعات، شهدت المملكة حجم إنفاق يتجاوز 100 مليار ريال سعودي. وقد أدّى ذلك إلى تحقيق فائض تُقدَّر قيمته بنحو 37.8 مليارات ريال سعودي، مما يعكس نمواً كبيراً بنسبة 72% مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق 2022.
خلق مليون وظيفة جديدة ضمن القطاع
يشهد سوق العمل في المملكة تقدماً سريعاً، فقد ارتفع عدد العاملين في القطاع السياحي من 579 ألفاً في 2019 إلى 913 ألفاً في 2023، ولذلك تم رفع عدد الوظائف المنوي خلقها إلى مليون و600 ألف وظيفة بحلول 2030.
وعلى خط موازٍ، يتم تنفيذ العديد من المبادرات لدعم وتشجيع السعوديين العاملين في قطاع السياحة، منها حملة بعنوان "مستقبلك سياحة" التي تهدف إلى توفير 100 ألف فرصة وظيفية سنوياً للكوادر الوطنية في قطاع السياحة. وقد أدّت سياسة "السَعْودة" إلى ارتفاع نسبة السعوديين العاملين في القطاع من 41% في عام 2020، إلى 48% في عام 2023.
ارتفاع مشاركة القوى العاملة النسائية في القطاع السياحي من 39% إلى %45
وتغذّي هذا التحول مجموعة من العوامل، منها السياسات الحكومية الاستباقية التي تدعو إلى التمكين الاقتصادي للمرأة، وارتفاع التحصيل العلمي بين النساء السعوديات، وزيادة الطلب على عمل الإناث في القطاع الخاص، فضلاً عن الإصلاحات المهمة على المستويين القانوني والتنظيمي، وحق المرأة في اختيار مكان إقامتها، وحظر التمييز على أساس الجنس في الوظيفة وفي الحصول على الائتمان، وخلق فرص عمل جديدة للمرأة في صناعاتٍ لطالما كانت حكراً على الرجال. ونتيجةً لذلك، ارتفع معدل مشاركة المرأة السعودية في القوى العاملة منذ أواخر عام 2018 إلى نهاية عام 2022، من 20% إلى 35%. أما في القطاع السياحي، فقد ارتفعت مشاركة القوى العاملة النسائية من 39% إلى 45% بين عامي 2022 و2023.
العناصر التي أتاحت نهضة القطاع السياحي
الأطر التنظيمية والتنفيذية
لتوجيه صناعة السياحة الناشئة، أسّست السعودية وفعّلت نظاماً يتكون من ثلاثة كيانات عامة رئيسية:
- وزارة السياحة، وتتولى مهمة تحديد الإستراتيجية الوطنية للسياحة، وإصدار التراخيص، وصياغة السياسات واللوائح، وتعزيز بيئة جاذبة وتطوير رأس المال البشري.
- الهيئة السعودية للسياحة، التي تركز على تقديم السعودية كوجهة سياحية جذابة، وتطوير علامتها التجارية السياحية، وإقامة شراكات مع الأطراف ذات الصلة لجذب المزيد من الزوّار.
- صندوق تطوير السياحة، الذي يركز على تنفيذ إستراتيجية الاستثمار الخاصة بوزارة السياحة، والتي تشمل تصميم خطط الاستثمار، وتوفير التمويل للشركات السياحية الكبيرة والصغيرة، وتعزيز جاذبية القطاع للمقرضين والمستثمرين، وذلك برأسمال أولي قدره 4 مليارات دولار.
وفي سياق متصل، قامت وزارة السياحة بتوسيع نطاق إصدار التأشيرات الإلكترونية لمواطني دول جديدة عدة، وقد بلغ عدد البلدان التي تستفيد من هذه الخدمة 64 بلداً.
كذلك الأمر بالنسبة إلى النقل، إذ أطلقت السعودية مؤخراً إستراتيجيةً وطنيةً محدّثةً للنقل والخدمات اللوجستية، من أجل تعزيز القدرة على التنقل، كي تتماشى مع زيادة عدد الوافدين الأجانب وذلك من خلال مشروع مطار الملك سلمان الدولي الجديد الذي سيمتد على مساحة 57 كيلومتراً مربعاً تقريباً، والذي من المتوقع أن يستوعب ما يصل إلى 120 مليون مسافر بحلول عام 2030. كما أعلنت السعودية في شباط/ فبراير 2023، عن إطلاق الخطوط الجوية "الرياض"، وهي شركة طيران جديدة من المتوقع أن تخدم 100 وجهة بحلول عام 2030.
التنوع السياحي: ديني، ترفيهي، رياضي وعمل
السياحة الدينية
في عام 2023، شارك عدد قياسي من المسلمين بلغ 13.5 ملايين مسلم في أداء العمرة، ما يمثل مستوى غير مسبوق من المشاركة الدولية في هذه الشعيرة. ويمثل هذا الرقم زيادةً كبيرةً عن عام 2019، عندما وصل 8.5 ملايين حاج من خارج السعودية. وتتوقع الحكومة أن ينمو قطاع السياحة الدينية بشكل كبير في السنوات القادمة، حيث تستهدف استقبال 30 مليون سائح ديني بحلول عام 2030.
السياحة الترفيهية
يشهد قطاع الترفيه والفعاليات في السعودية تحولاً كبيراً، ومن المتوقع أن يتوسع سوق الفعاليات في المملكة الذي تبلغ قيمته نحو 800 مليون دولار أمريكي، إلى 1.12 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2026. ويعود هذا التطور إلى الزيادة الكبيرة في الأنشطة الترفيهية، والتي أبرزها رفع حظر السينما الذي دام عقوداً من الزمن، وإنشاء المدينة الإعلامية في الرياض، وبدء المواسم السعودية بأحداث مختلفة مثل الحفلات الموسيقية والسباقات.
خلال عام 2023، تجاوز إجمالي عدد زوار الفعاليات والأنشطة الترفيهية 72 مليوناً، وهو ما يمثل زيادةً بنسبة 17% مقارنةً بعام 2022. وفي عام 2023 أيضاً، أقيمت 5،406 فعاليات ترفيهية، شملت عروضاً متنوعةً وعروضاً حيّةً في المطاعم والمقاهي. وتوفر معدلات مشاركة الجمهور مقياساً ملموساً لنمو القطاع (مثال ارتفاع الحضور في موسم الرياض من 2.5 ملايين عام 2019 إلى أكثر من 10 ملايين عام 2023). ومن المقرر أن يشهد هذا العام وحده، 2024، لائحةً مهمةً من الأحداث والحفلات الموسيقية الكبرى، ومنها: موسم الرياض، حفلات الدرعية الإلكترونية، مهرجان البحر الأحمر السينمائي، نهائيات كأس العالم للاتحاد الدولي للفروسية، والمعرض السعودي الدولي للتسويق والتجارة الإلكترونية، وغيرها الكثير مما يوضح بشكل أكبر النمو الديناميكي للقطاع.
الأحداث الرياضية
من المقرر أن تستضيف السعودية سلسلةً من الأحداث الرياضية المهمة في السنوات المقبلة، أبرزها بطولة كأس العالم لكرة القدم 2034 على الأرجح. وتشمل الأحداث البارزة الأخرى: الألعاب الأولمبية الشتوية، الألعاب الآسيوية، كأس آسيا، الألعاب الشتوية الآسيوية، كأس التحدي الآسيوي، والفورمولا 1، وغيرها من الأحداث الدولية.
وإلى جانب الرياضات التقليدية، تهدف الإستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية إلى وضع السعودية كمركز عالمي للألعاب والرياضات الإلكترونية، واستهداف ما يصل إلى 10 ملايين زائر بحلول عام 2030.
رحلات العمل
تاريخياً، تساهم رحلات العمل بنسبة 9% من الزيارات السياحية إلى المملكة العربية السعودية. في عام 2018، سُجّلت أربعة ملايين زيارة سياحية للمسافرين من رجال الأعمال، والهدف حالياً مضاعفة رحلات العمل والوصول إلى 10-11 مليون زيارة بحلول عام 2030.
بنية الفنادق
يُعدّ سوق الفنادق في السعودية واحداً من أقوى الأسواق على مستوى العالم، ومن المتوقع أن يصل إلى 62.57 مليار دولار بحلول عام 2030. كما تُعدّ المملكة الآن الدولة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لبناء فنادق جديدة، حتى قبل الإمارات العربية المتحدة. ومن المقرّر أن تعمل المملكة على توسيع قطاع السياحة، بهدف إضافة 315 ألف غرفة فندقية بحلول عام 2030، بتكلفة 37.8 مليارات دولار. وبذلك يصل المجموع إلى نحو 450 ألف غرفة.
وفي سياق سياستها التي تقوم على المزيد من الانفتاح، سمحت السلطات السعودية للسياح الأجانب بالإقامة في فنادقها دون الحاجة إلى إثبات العلاقة العائلية، وبينها الزواج، عبر مستند، وكان يتوجب على السعوديين والأجانب الراغبين في الإقامة في فندق في المملكة إثبات العلاقة العائلية في حال رغب رجل وامرأة في النزول معاً في غرفة واحدة، فيما لا يزال يتوجب على "العائلات" السعودية "إثبات العلاقة" بين أفرادها.
المشاريع الكبيرة
- تروجينا: وجهة سياحية جبلية ضمن مشروع نيوم، تشمل قرية تزلج ومنتجعات فاخرةً، ومتاجر تجزئة ومطاعم متنوعةً.
- مشروع البحر الأحمر: وجهة سياحية فاخرة على ساحل البحر الأحمر، تتضمن فنادق ومساكن فاخرةً.
- مشروع أمالا: وجهة سياحية فاخرة على الساحل الشمالي الغربي، تضم فنادق ومنتجعات صحيةً.
- مشروع سندالة: منتجع جزيري على البحر الأحمر، يشمل فنادق ومارينا لليخوت ومرافق ترفيهيةً.
- مشروع القدية: بالقرب من الرياض، يهدف إلى أن يكون عاصمة الترفيه في السعودية، مع مدن ملاهٍ ومتنزهات مائية ومرافق رياضية.
وفي تقرير لمؤسسة نايت فرانك، تمثل هذه المشاريع ما يقرب من 73% من إمدادات الفنادق في المملكة .
ازدهار السياحة وتأثيرها في المجتمع السعودي
وتحاول السعودية ترسيخ وجودها على مسرح السياحة العالمية -برغم دخولها مؤخراً إلى هذا القطاع- وذلك من خلال الجمع بين الاستفادة من تراثها الطبيعي والتاريخي الوافر، والقيام باستثمارات إستراتيجية في البنى التحتية وتطوير الوجهات السياحية. كما أن ازدهار وتطور السياحة فيها سينعكسان حكماً على شرائح المجتمع السعودي كافة، إن من حيث توظيف شبابه بنسب مرتفعة أو من حيث رفع نسبة عمالة النساء في جميع المجالات، والأهم، انعكاس ذلك على التقاليد المحافظة للسعودية وجعلها أكثر انفتاحاً وأكثر قدرةً على اللحاق بركب التطور في المنطقة والعالم، مع تقليل الاعتماد في المستقبل على الموارد النفطية.