مواسم الهجرة من لبنان... العامل الاقتصادي يفوق الأمني بأضعاف

الهجرة ليست حكراً على الدول الفقيرة أو المأزومة. معظم الدول، بما فيها المتطورة اقتصادياً، يهاجر عدد من مواطنيها إلى دول أخرى، غير أن معدلات الهجرة فيها تبقى بسيطةً جداً، ولا تتعدّى نسبة 3 في الألف (فرنسا مثلاً نحو 2.2 في الألف).

لبنان، خلافاً لما يعتقد البعض، ليس بعيداً عن المعدلات العامة للهجرة، لا سيما في السنوات التي يشهد فيها استقراراً في الأمن ونمواً في الاقتصاد، إذ يهاجر منه 14 ألف مواطن كحد أدنى، أي ما نسبته أيضاً نحو 3 في الألف. أما الصفة الشهيرة اللصيقة باللبنانيين بأنه "شعب مهاجر"، فليست في واقع الحال سوى انعكاس للفترات التي تسوء فيها الأوضاع الاقتصادية أو الأمنية... وما أكثرها في لبنان.

لمحة تاريخية عن هجرة اللبنانيين

تاريخ الهجرات في لبنان سبق إعلان دولة لبنان الكبير، فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أيام الحكم العثماني، بدأت الهجرات الكبرى من متصرفية جبل لبنان التي كانت تمتدّ على مساحة جغرافية تبلغ نحو 4،500 كيلومتر مربّع، أي ما نسبته 43% من مساحة لبنان الحالية. كان اقتصاد متصرفية جبل لبنان يعتمد بشكل أساسي على إنتاج شرانق الحرير الذي يمتد على نحو 40% من الأراضي الزراعية، ويوفر فرص عمل لـ41% من مواطني المتصرفية وفق ما ذكر الأكاديمي عبد الله ملاح في كتابه "الهجرة من متصرفية جبل لبنان 1861- 1918". لكن تجارة الحرير أصيبت بنكسة إثر اكتشاف خيوط الحرير الاصطناعي في اليابان، ما أدّى إلى هجرة ما يقارب 23% من مواطني المتصرفية، أي كما ذكر أسعد الأتات، نحو 120 ألف مهاجر في أواخر القرن التاسع عشر، وعُرفت هذه الهجرة بـ"الهجرة الأولى". استمرت هجرة اللبنانيين منذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، لتنخفض في فترة الانتداب وصولاً إلى اندلاع الحرب الأهلية.

خلال سنوات الحرب الأهلية (1975-1990)، هاجر اللبنانيون بدافع النجاة من الموت بشكل أساسي، وليس لدوافع اقتصادية، وورد في كتاب "الهجرة وتشكل النخبة السياسية في لبنان" لبول طبر ووهيب معلوف أن "الهجرة الثانية" سجّلت أرقاماً شديدة الارتفاع إذ وصلت إلى نحو 990 ألف مهاجر خلال 15 عاماً من الاقتتال.

أما في السنوات الثلاثين الماضية التي تلت الحرب الأهلية، فلم تتوقف موجات الهجرة وإن تغيّرت دوافعها. ويبيّن التحليل التالي لباحثي شركة آراء للبحوث والاستشارات، أن العامل الاقتصادي كان الغالب في هجرة اللبنانيين الأخيرة، وإن ساندته الأوضاع الأمنية المتأزمة والخلافات السياسية المستمرة.

سياق الهجرة بعد الحرب الأهلية

استناداً إلى بيانات حركة سفر اللبنانيين عبر مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، الصادرة عن الأمن العام، ووفق ما نشرته monthly magazine، تبيّن تأرجح أعداد المهاجرين والمغادرين بهوامش مرتفعة.
اللافت للانتباه كان هجرة نحو 86 ألف نسمة خلال العامين 1992-1993، أي بعد عامين على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية، وهي الفترة التي شهدت ركوداً اقتصادياً كون المشروع السياسي بعد اتفاق الطائف لم يتبلور بعد، وبداية حقبة الوصاية السورية على لبنان التي أعقبت حرب الخليج. عدد كبير من الأشخاص الذين كانوا منغمسين في الحرب الأهلية، وكانت لهم خلالها سلطة أو دور ما، وجدوا أنفسهم أمام واقع جديد بعد انتهاء الحرب وتوقف تمويلها. ونتيجةً لفقدان موقعهم ومصدر دخلهم أو حتى أمنهم، كانت الهجرة خيارهم ليواجهوا بمفردهم صعوبات الحياة في بلدان أخرى.

لكن مع تبلور الحكم وشكل النظام الجديد والمشروع السياسي والاقتصادي للطبقة الحاكمة، والذي سُمّي آنذاك بمشروع "إعادة الإعمار"، وارتكز اقتصادياً على استدانة الدولة أموالاً طائلةً وبفوائد مالية مرتفعة، تراجعت أرقام المهاجرين في الفترة الممتدة من عام 1994 حتى عام 2005، إذ بلغ معدّلها السنوي نحو 12 ألف مهاجر. قد يكون السبب الأساسي لتراجع أعداد المهاجرين في هذه الحقبة، أن لبنان شهد خلال هذه المرحلة استثمارات جديدةً في قطاعات مختلفة خلقت فرص عمل جديدةً.

في العامين 2006 و2007، عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري والحرب الإسرائيلية على لبنان (حرب تموز)، ارتفع عدد المهاجرين إلى 48 ألف نسمة بسبب انعدام الأمن والاستقرار، ثم انخفض العدد في الأعوام 2008 و2009 و2010، إلى معدل بلغ 17 ألف مهاجر سنوياً بعد اتفاق الدوحة وما رافقه من استقرار سياسي ونمو اقتصادي غير مسبوق لامس 10% سنة 2010. غير أن الهجرة عادت لتقفز إلى 68 ألف مهاجر عام 2011، واستمرت بوتيرة عالية حتى 2014، مسجلةً 205 آلاف مهاجر في أربع سنوات. وقد يكون أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع أعداد المهاجرين، الانقسام السياسي والانكماش الاقتصادي في تلك المرحلة، بعد ما سُمّي بالانقلاب على "اتفاق الدوحة"، وقيام حكومة وُصفت بأنها حكومة "اللون الواحد" برئاسة نجيب ميقاتي.

في عام 2016، انخفض عدد المهاجرين إلى أدنى مستوياته خلال عقد من الزمن، مسجّلاً 11،650 مهاجراً، وهي السنة التي شهدت اتفاقاً استثنائياً بين حزبَي "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر"، تُوِّج بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وانطلاق "العهد القوي" كما رُوِّج له من قبل أنصار الرئيس السابق "الذي وعد بالإصلاح ومحاربة الفساد". غير أن هذه الآمال ما لبثت أن تلاشت، فعادت الهجرة إلى الارتفاع ووصلت إلى 18،863 مهاجراً في عام 2017، وقفزت إلى 33،129 مهاجراً في عام 2018، وتضاعفت إلى 66،806 مهاجرين في عام 2019. لا شك أن الارتفاع الأخير في أعداد الهجرة ناتج هذه المرة عن سوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الضرائب غير المباشرة وبداية الأزمة المالية، حيث بلغت نسبة البطالة بين الشباب 37%، ونسبة البطالة العامة 25% وفق تصريح النائب ووزير العمل السابق محمد كبارة، وترافقت هذه الأرقام مع اندلاع ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وما أعقبها من انهيار مالي وأزمة مصرفية ومالية هي الأكبر في البلاد.

في العام 2020، ذكرت الدولية للمعلومات أنه وبرغم تفاقم الأزمة الاقتصادية وتفجير مرفأ بيروت، انخفض عدد المهاجرين إلى 17،721 مهاجراً، ومرد ذلك إلى جائحة فيروس كورونا التي ضربت العالم متسببةً في إغلاق المطارات، قبل أن يقفز عدد المهاجرين بشكل دراماتيكي في العام التالي، أي 2021، ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق إذ بلغ 79،134 مهاجراً، ولولا أزمة إصدار جوازات السفر لكان سجّل عام 2022 رقماً مشابهاً، بدلاً من 42،199 مهاجراً.

أسباب الهجرة بين الأمن والاقتصاد

تحليل أعداد المهاجرين خلال العقود الثلاثة الماضية، ومقارنتها بالنمو الاقتصادي من جهة، وبالوضع السياسي الأمني من جهة أخرى، يُظهران بوضوح أن العامل الاقتصادي يتفوق على العاملين السياسي والأمني.

عندما يكون الوضع الاقتصادي سيئاً، وبغض النظر عن الوضع السياسي، يبلغ معدل الهجرة 38 ألفاً سنوياً. لكن، عندما يكون الوضع السياسي متأزّماً، وبغض النظر عن الوضع الاقتصادي، يبلغ معدل الهجرة 21 ألفاً. وعليه، العامل الاقتصادي دافع للهجرة لشريحة أكبر من اللبنانيين، أكثر من العامل السياسي الأمني.

والجدير بالذكر أنه في حال استقرار العاملين الاقتصادي (نمو) والسياسي (استقرار وتوافق)، ينخفض معدل الهجرة إلى نحو 14 ألف مهاجر سنوياً، كما حصل في السنوات 1994 حتى 1997، والسنوات 2001 حتى 2004، والسنوات 2008 حتى 2010، والسنوات 2016 حتى 2017. أي أن هذا هو المعدل الأدنى لهجرة اللبنانيين. في المقابل، في السنوات التي تشهد كساداً مصحوباً بانقسام سياسي عادةً ما ينتج عنه فراغ في الحكم وحكومات تصريف أعمال، يصل معدل الهجرة السنوية إلى 51 ألفاً (السنوات 2006 و2011 حتى 2013)، ليرتفع إلى 79 ألف مهاجر في حال كان الوضع الاقتصادي منهاراً تماماً كما حصل عام 2021، وهو المعدل الأعلى للهجرة.

مواصفات المهاجرين من لبنان

في الوقت الذي تكاد تكون فيه الهجرة رغبةً لدى فئات عمرية واجتماعية متنوعة، ليس كل من يرغب في الهجرة يطالها. في ما يلي توزّع المهاجرين حسب الفئة العمرية، والجنس، والمستوى التعليمي، والوضع المهني.
أ. توزُّع المهاجرين تبعاً للفئة العمرية والجنس

استناداً إلى نتائج آخر مسح عنقودي أعدّته إدارة الإحصاء المركزي في فترة 2004-2009، يتوزع المهاجرون على مختلف الفئات العمرية، وتأتي في المرتبة الأولى الفئة العمرية (25-34 سنةً) بنسبة 44%، وفي المرتبة الثانية الفئة العمرية (أقل من 25 سنةً) بنسبة 33%. كما أن الفئة العمرية الشابة (25-44 سنةً) تشكّل 57% من المهاجرين، كونها الفئة المرغوب فيها على الأكثر لأنها منتجة، وطيّعة وغير مكلفة.

غالبية المهاجرين من الذكور (76%)، العزّاب (57%)، ودون الـ35 عاماً (77%). هذه المعطيات تفسّر التراجع الحاد في نسبة الذكور لدى هذه الشريحة العمرية بين المقيمين في لبنان، وتحمل دلالات خطيرةً لمستقبل لبنان لجهة تناقص عدد الفئة العمرية الشابة وشيخوخة السكان المقيمين.

ب. توزُّع المهاجرين تبعاً للمستوى التعليمي

تزداد فرص الهجرة لحاملي الشهادات الجامعية، ويسهل عليهم الحصول على تأشيرات الدخول مقارنةً بالأقل تعليماً، سواء لمتابعة الدراسة في الخارج أو للعمل في اختصاصهم.

على ضوء الدراسة الأخيرة التي أجرتها إدارة الإحصاء المركزي حول المهاجرين بين عامي 2004 و2009، والتي تناولت توزيع المهاجرين حسب المستوى التعليمي، وبالاستناد أيضاً إلى الدراسة الحديثة التي أجرتها الإدارة حول توزُّع المقيمين بحسب المستوى التعليمي في عام 2022، يتبين أن الجامعيين يشكّلون النسبة الأعلى بين المهاجرين بنسبة 44%. يأتي بعدهم المهاجرون الحاصلون على شهادة ثانوية بنسبة 29%، في حين يشكّل المهاجرون ذوو المستوى التعليمي المتوسط أو الحاصلون على تدريب غير نظامي النسبة الأقل بنسبة 24%. أما المهاجرون غير المتعلمين فيشكلون فقط 3% من إجمالي المهاجرين.

يُلاحَظ أيضاً أن نسبة الجامعيين بين المقيمين في لبنان في عام 2022، بلغت 12.2% من إجمالي السكان، بينما بلغت نسبة الحاصلين على شهادة ثانوية 15.1%. أمّا بالنسبة إلى المستوى التعليمي تبعاً للجنس، فأظهرت الدراسات أن 46.8% من الذكور حصَّلوا تعليماً ثانوياً على الأقل، في حين ترتفع هذه النسبة بين الإناث إلى 53.2%.

هجرة الجامعيين بهذه الأعداد الكبيرة تشكل خسارةً فادحةً للبنان، كونهم من أهم الموارد البشرية في البلاد، وعليهم تُعقد الآمال في النهوض والتطور، لكن مع تزايد الهجرة، يفقد لبنان هذه الكفاءات المهمة.

ت. توزُّع المهاجرين تبعاً للتخصص والمهنة

بحسب الخبير الإقتصادي روبير كاسباريان (2014)، يظهر الجدول أدناه نسب توزّع المهاجرين حسب التخصصّ والمهنة. النسبة الأعلى سجّلها حملة الشهادات الجامعية في التكنولوجيا والهندسة وإدارة الأعمال 27%، يليهم الأدب والعلوم الاجتماعية بنسبة 13%، والطب بنسبة 12%، والعلوم والرياضيات والحاسوب بنسبة 10%. أما النسبة الأقل بين المهاجرين، فهي في مجال المحاماة والعلوم السياسية بنسبة 4%.

أبرز البلدان المضيفة للمهاجرين اللبنانيين

تشير آخر البيانات التي قدّمتها الإسكوا عام 2017، إلى أبرز خمسة بلدان مضيفة للمهاجرين اللبنانيين وهي على التوالي: الولايات المتحدة (123،337 مهاجراً)، المملكة العربية السعودية (116،577 مهاجراً)، أستراليا (96،306 مهاجرين)، كندا (90،517 مهاجراً)، وألمانيا (79،534 مهاجراً). وحصة هذه البلدان الخمسة في الفترة الزمنية 2015-2017 من مجمل المهاجرين من لبنان تساوي 63.4%.

تحويلات المغتربين إلى لبنان

يُعَدّ لبنان من الحالات الفريدة من حيث تمويله الذي يرتكز على تصدير البشر وليس السلع والخدمات. وشكلت التحويلات المالية من اللبنانيين المغتربين والعاملين في الخارج دوراً محورياً في توفير العملات الأجنبية، خصوصاً خلال الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ 2019، فزادت الودائع المصرفية دون أن يقابلها عمل أو إنتاج في الاقتصاد الحقيقي المحلي. كما أسهمت هذه التحويلات في تمكين الكثير من الأسر المقيمة من تأمين حاجياتها المعيشية.

قدّر البنك الدولي في تقريره الأخير، حجم تحويلات المغتربين إلى لبنان بـ6.4 مليارات دولار في العام 2022، إذ بلغت 35.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم هائل يدخل في هيكلية الاقتصاد اللبناني. هذه الأموال التي يتم تحويلها إلى لبنان تسدّ ما نسبته 70% من العجز التجاري للبلاد، ولعبت دوراً كبيراً في لجم زيادة تدهور العملة اللبنانية وارتفاع الدولار في السوق السوداء. وتأتي غالبية هذه التحويلات من المهاجرين اللبنانيين المنتشرين في أمريكا الجنوبية والشمالية، ومن ثم الخليج العربي، تليها التحويلات القادمة من إفريقيا.

بعد أكثر من ثلاثين سنةً على انتهاء الحرب الأهلية، تؤكد القراءة في أعداد المهاجرين التالي:

هجرة اللبنانية ليست واقعاً ثابتاً في مختلف المراحل التي يعيشها البلد، وهي ترتبط بشكل وثيق بالحالة السياسية والاقتصادية في البلاد، إذ إن أرقام المهاجرين تنخفض في أوقات الاستقرار السياسي والاقتصادي، وترتفع وتتضاعف في فترات الأزمات. ويبقى المهاجرون ركيزةً أساسيةً لدعم الاقتصاد والحد من تداعيات الانهيار المالي على مدار الأعوام واختلاف أجيال من اللبنانيين المهاجرين.

Previous
Previous

نمو اقتصادي في ظل "جهود الانفتاح"... متى تُصبح السعودية قبلةً سياحية؟

Next
Next

النضال نحو مشاركة فعّالة في البرلمان... ماذا أنجزت المرأة العربية؟