الجنوبيون محاصرون بالفوسفور الأبيض... إسرائيل تتسبب بكارثة بيئية وإنسانية تهدد المستقبل

بعد أكثر من مئتين وخمسين يوماً من الحرب على غزّة، يمكن وصف جرائم الجيش الإسرائيلي في غزّة وجنوب لبنان بأنّها ممنهجة تهدف إلى تحقيق أكبر حجم من الأضرار الممكنة. هذه الجرائم لا تنحصر في كونها جرائم ضدَّ الإنسانيّة فحسب، بل هي جرائم بيئيّة أيضاً، أخطر ما فيها استعمال الأسلحة المحظورة دوليّاً، ومنها قنابل الفوسفور الأبيض. هذه القنابل التي لطالما استخدمتها إسرائيل في حروبها على لبنان وغزّة، تستخدمها اليوم في سياسة الأرض المحروقة التي تعتمدها. فما هو الفوسفور الأبيض؟ وكيف يؤثر على الأراضي الزراعية الجنوبية؟

التأثير على الواقع البيئي والزراعي

يقول رئيس جمعيّة "جنوبيون خضر" الدكتور هشام يونس، إنّه من الصعب الحصول على أرقام دقيقة تصف الكارثة البيئية في الجنوب لخطورة الوضع هناك، إلّا أنّه "يمكن الاعتماد على آخر الأرقام التي نشرتها وزارة الزراعة التي أعلنت أنّ المساحة الإجمالية المحروقة بالفوسفور الأبيض أو بالقنابل الحارقة تبلغ نحو 2،400 دونم، أي 2 كلم مربّع، 40% من هذه المساحة المحروقة هي مناطق زراعيّة و60% أشجار صمغية وحرجية".

وفقاً لهذه الأرقام، تسبب الفوسفور الأبيض في حرق أكثر من 60 ألف شجرة زيتون غالبيتها معمّرة ومنتجة. كما تسبّبت الغارات الجوية الإسرائيلية بافتعال أكثر من 657 حريقاً، وألحقت أضراراً بأكثر من 6،000 دونم (6 كيلومترات مربعة)، من الغابات والأراضي الزراعية.

ما هو الفوسفور الأبيض؟

بحسب تعريف منظّمة الصحّة العالميّة، الفوسفور الأبيض (ويُسمَى أحياناً بالأصفر)، مادّة صلبة شمعية تتراوح بين اللونين الأبيض والأصفر. يشتعل الفوسفور الأبيض تلقائياً في الهواء عند درجات حرارة عالية، ويستمر في الاحتراق حتى يتأكسد بالكامل، وينتج عن حرقه دخان كثيف أبيض اللون ومهيِّج يحتوي على خليط من أكاسيد الفوسفور. يُستخدم الفوسفور الأبيض لأغراض عسكرية في القنابل اليدوية وقذائف المدفعية بغرض الإضاءة وتوليد ستار من الدخان، كما يُستخدم كمادة حارقة.

المصدر: صحيفة لوريون لوجور

يصف رئيس جمعيّة "جنوبيون خضر"، الوضع الحالي "بالإبادة البيئيّة"، كون الحريق سيؤثّر على الموسم الزراعي الحالي، وعلى مواسم الإنتاج المستقبليّة، لأن الفوسفور يعمل على درجة حرارة تصل إلى 800 درجة مئوية، ما يسبّب حريقاً وتلوثاً للتربة التي تحتاج إلى سنوات طويلة لتتعافى منهما.

المصدر: وزارة الزراعة اللبنانية، 23 نيسان/ أبريل 2024

استهداف الأراضي الزراعية في جنوب لبنان الذي يُعدّ منطقةً خصبةً يعتمد أهلها على الزراعة الموسمية كمصدر أساسي، عمل ممنهج هدفه شلّ الحياة على الحدود مع إسرائيل. فالمواسم الزراعية في الجنوب تشكّل 22% من إجمالي الفاكهة والحمضيات المنتجة في لبنان، ونحو 38% من إجمالي موسم الزيتون، و5،000 طنّ من أصل 25،000 طن من زيت الزيتون المنتج سنوياً في لبنان، بالإضافة إلى زراعة التبغ التي تولّد، إلى جانب المحاصيل الموسميّة الأخرى، دخلاً حيوياً للمجتمعات المحلية في الجنوب، لا سيما في القرى الحدودية.

تعتمد خمسون قريةً حدوديةً جنوبيةً تقريباً بغالبية 70% من سكّانها، على الزراعة كمصدر أساسي للدخل. هؤلاء المزارعون المنقطعون عن أراضيهم منذ نحو 8 أشهر، لم يتمكّنوا بعد من إحصاء الأضرار، وهم حالياً مهجّرون من دون أي بديل لرزقهم الأساسي، إذ لم يتمكّن كثرٌ منهم من قطاف موسم الزيتون خلال الخريف الماضي (أي بداية الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، ومن الممكن ألّا يتمكّنوا من قطاف موسم الخريف القادم في ظل الضبابية السائدة التي تسم الأحداث العسكرية والسياسيّة. أضف إلى ذلك أن المزارعين لا يملكون معلومات عن حال أراضيهم، ولم يتمكّنوا من حراثتها لتهيئها للموسم القادم، حالهم حال الدولة ووزاراتها التي لم تتمكّن بعد من إحصاء الأضرار ولم تتحدّث عن أيّ خطط واضحة للتعويض على المزارعين.

يقول زين سرحان، صاحب معصرة زيتون في بلدة كفركلا الجنوبيّة، في حديث إلى رصيف22، إنّ موسم الزيتون لعام 2022، أي ما قبل الحرب، كان ممتازاً، استفاد منه سكّان البلدة والبلدات المجاورة التي تلجأ إلى معصرته. أمّا عن موسم 2023، أي مع بداية الحرب، فتمكّن عدد قليل فقط من السكان من قطاف مواسمهم، إلّا أن العديد من المعاصر، خاصّةً منها اليدويّة والصغيرة، سكّرت أبوابها خوفاً من الحرب.

يقول سرحان إنّ العديد من أصحاب الزيتون في المنطقة تركوا موسمه هرباً من الحرب، ولم يتمكّنوا حتّى اليوم من الوصول إلى أراضيهم لقطاف موسم 2024. اليوم، بعد مرور أكثر من 8 أشهر على عمليّة "طوفان الأقصى"، يعرف الأهالي أنّ أراضيهم ربما تكون قد تأثّرت بالفوسفور الأبيض، لكنّهم لا يعرفون حجم الضرر ولم يتمكّنوا من زيارتها وحراثتها، في ظل غيابٍ تام للدولة على حدّ تعبير سرحان.

تاريخ الاعتداءات على لبنان 

عمدت القوات الإسرائيليّة إلى استعمال الفوسفور الأبيض وتوجيهه نحو المناطق المأهولة والزراعيّة على مدى حروبها على لبنان منذ العام 1978. وبحسب منظّمة العفو الدوليّة، فإن "استخدام الفوسفور الأبيض محظور بموجب القانون الدولي الإنساني. وعلى الرغم من وجود استخدامات مشروعة له، لا يجوز أبداً أن يصوَّب نحو مناطق سكنية مأهولة وبنية تحتية مدنية أو نحو مناطق قريبة منها، لأنه من الممكن جداً أن ينتشر الحريق والدخان اللذين يتسبّب فيهما. تُعدّ مثل هذه الهجمات، التي لا تميّز بين المدنيين والمواضع المدنية والمقاتلين والأهداف العسكرية، عشوائيةً، وتالياً فهي محظورة".

استخدمت إسرائيل قنابل الفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية خلال حرب تموز/ يوليو 2006، على جنوب لبنان، أي قبل 17 عاماً، فتضررت الأراضي، كما زرعت فيها الألغام والقنابل العنقودية. وعلى الرغم من أن الدولة قد أقرّت على الورق تعويضات للمزارعين المتضررة أراضيهم حينها، إلّا أنّ كثراً منهم لم يقبضوا بعد هذه التعويضات من الهيئة العليا للإغاثة.

اليوم، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها لبنان منذ العام 2019، تُعدّ التعويضات أملاً بعيد المنال، حيث يخشى المزارعون وأصحاب المعاصر وتجّار الخضروات وغيرهم أن يتكبّدوا الخسائر وحيدين.

يعبّر رئيس جمعيّة "جنوبيون خضر" الدكتور هشام يونس عن أنّ "الزيتون هنا يُستهدف كما في الضفة الغربية وغزّة، لأنه مصدر حياة ويمثّل ارتباطاً بالأرض وشكلاً من أشكال التعلق بها، وهذه محاولة للنيل من الرابطة العميقة بين الجنوبي وأرضه، وكسرها. استخدام الفوسفور الأبيض يُعدّ محاولةً لجعل هذه المناطق غير قابلة للعيش وغير مأهولة ومكشوفة أمامه عسكريّاً".

وبات ذلك واضحاً عندما استهدف الجيش الإسرائيلي الأحراج وحرقها ليؤثّر على جودة التربة والهواء في المنطقة والمحيط البيئي المترابط، وتالياً على قدرة المجتمعات المحلية على البقاء، وهذا يقع ضمن سياسة الأرض المحروقة التي لطالما استخدمتها إسرائيل والتي ترقى إلى "الإبادة البيئية"، والتي تطال المجتمعات المحلّية بشكل مباشر عندما يتم استهداف جودة الهواء والتربة وخزانات المياه الجوفية، خاصّةً أننا في فترة تحديات بيئية مثل ندرة المياه وتغيّرات مناخية أخرى.

وعليه، فإن إصرار أصحاب الأرض في الضفّة وغزّة وجنوب لبنان على البقاء في أرضهم، وإعادة زراعتها حتى بعد حرقها، تعبير مباشر وصريح عن التعلّق بالأرض.

يُذكر أن مصدر قنابل الفوسفور، المساعدات العسكرية التي ترسلها الولايات المتّحدة لإسرائيل. والولايات المتحدة هي إلى حد بعيد أكبر مورد للأسلحة إلى إسرائيل، بعد أن ساعدتها في بناء واحد من أكثر الجيوش تطوراً من الناحية التكنولوجية في العالم.

Previous
Previous

Trapped by white phosphorus: Israel causes an environmental and humanitarian catastrophe in Lebanon

Next
Next

نمو اقتصادي في ظل "جهود الانفتاح"... متى تُصبح السعودية قبلةً سياحية؟