أطفال العراق والمستقبل المجهول... هكذا يفاقم الفساد أزمة التسرّب المدرسي

يشهد العراق، وهو البلد الغني بتاريخه وتراثه الثقافي، تراجعاً صادماً في قطاع التعليم، وبلغت معدّلات التسرّب المدرسي فيه أرقاماً مثيرة للقلق، خصوصاً بين الفئات السكانية الضعيفة التي تشمل الأسر الفقيرة، والنازحين، والفتيات، والمناطق الريفية.

ووفق تقرير لمنظمة اليونيسف لعام 2023، إن نحو 30% من أطفال العراق لا يكملون تعليمهم الابتدائي، ويزداد الوضع خطورة في المرحلة الثانوية، إذ تقترب معدلات التسرّب المدرسي إلى 45%، وقد تصل إلى 50% في بعض المناطق.

وقد جاء في تقرير لليونيسف: "إن معدّل الوصول إلى التعليم الابتدائي مرتفع، إذ يبلغ معدّل الالتحاق الصافي 91.6%، ولكن معدّل إكمال التعليم الابتدائي منخفض، إذ يبلغ 76%. ويبلغ معدّل الالتحاق بالتعليم الثانوي الإعدادي 57.5%، بينما يبلغ 33% في التعليم الثانوي العالي، مع وجود تفاوت كبير بين الجنسين. ويقدر عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في العراق بنحو مليونين، نصفهم غائبون عن نظام التعليم الابتدائي".

ملاحظة: يغطي الرسم البياني عادةً كامل فترة تعليم الطفل، من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية. قد تبدو الأرقام منخفضة لأنها لا تعكس الوقت الذي يقضيه الطفل في المدرسة فحسب، بل أيضاً جودة التعلّم الذي يتلقاه الطلاب خلال تلك السنوات.

التعليم المتوقّع: هذا هو العدد الإجمالي للسنوات التي من المتوقّع أن يقضيها الطفل في المدرسة، من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي، وتبلغ نحو 11.3 عاماً لدورةٍ تعليمية كاملة (من الابتدائية إلى الثانوية).

سنوات التعلم الفعّالة: هذا يمثل نتائج التعلم الفعلية المعدلة وفقاً لجودة التعليم. لذا، في حين قد يكون الطالب في المدرسة لعدة سنوات، فإن جودة التعلم والاضطرابات (مثل الصراع أو البنية التحتية الرديئة) قد تقلّلان من التعليم الفعال الفعلي الذي يتلقاه.

التسرّب المدرسي في العراق… أسباب وأرقام صادمة

الفقر وعمالة الأطفال

كشف المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق عن أن 25% من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر (أقل من 8 دولارات في اليوم الواحد). كذلك أشارت إحصائيات برنامج الغذاء العالمي إلى أن 2.4 مليون شخص في العراق بحاجة ماسة إلى الغذاء.

وبسبب الفقر المدقع، كثيراً ما يُطلب من الأطفال ترك مدارسهم والالتحاق بسوق العمل لإعالة أسرهم. مما يؤثر بشكل مباشر على قدرتهم على الالتحاق بالمدارس وإكمال تعليمهم. وتقدّر المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق أن عدد الأطفال العاملين في البلاد يصل إلى أكثر من 700 ألف طفل.

النزوح

نتيجة الصراعات والأوضاع الأمنية، يوجد حالياً أكثر من 1.2 مليون نازح داخلي في العراق وفق بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 2023، ومن البديهي أن يواجه العديد منهم صعوبات اقتصادية تحدّ من قدرتهم على إلحاق أطفالهم في المدارس.

التزويج المبكر للفتيات

الفتيات هنّ أكثر عرضة للتسرّب المدرسي من الفتيان، خصوصاً في المجتمعات المحافظة والريفية التي تفضل تزويج الفتيات في سن مبكرة. وتشير تقارير إلى أن نحو 24% من الفتيات العراقيات يتزوجن قبل سن 18 عاماً، مما يحدّ بشدة من فرصهن التعليمية. ووفقاً لليونسكو، بلغ معدّل تسرّب الفتيات 11.4% مقارنة بـ 5.4% للفتيان في العام الدراسي 2020-2021، وترتفع معدلات تسرّبهن المدرسي من عمر 12 إلى عمر 17 عاماً. المخيف في أرقام التسرّب المدرسي أن الأمية بين النساء بلغت 26.4%، ويُعتقد أن النسبة أعلى بكثير في المناطق الريفية إذ تصل إلى 50%.

أحوال المدارس والتعليم

تفيد تقارير وزارة التربية والتعليم بأن أكثر من 50% من المدارس في العراق تحتاج إلى الإصلاح وتفتقر إلى المرافق الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ضمنها 2000 مدرسة آيلة للسقوط.

وبسبب النقص الكبير في المباني، طبّقت الوزارة أنظمة تقسيم الدوام في المدارس الرسمية إلى ثنائي وثلاثي وحتى رباعي من أجل استيعاب أكبر عدد من الطلاب، الأمر الذي أدّى حكماً إلى تدهور جودة التعليم، وساهم في ارتفاع معدّل التسرّب المدرسي. إضافة إلى ذلك، شكّل الافتقار إلى النظافة ودورات المياه المؤهلة أسباباً إضافية لتسرّب التلاميذ، وبشكل أخص الفتيات نظراً لخصوصية حاجاتهن.

كذلك في المناطق الريفية التي تفتقر في كثير من الأحيان إلى المدارس الكافية، يضطر الأطفال إلى السفر 10 كيلومترات للوصول إلى أقرب مدرسة، مما يؤثر بشكل كبير على معدلات الحضور والاستمرار، بحسب دراسة لليونيسف لعام 2023.

الفساد كلاعب كبير في تدنّي جودة التعليم وارتفاع معدلات التسرّب المدرسي

بحسب مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2023، احتل العراق المرتبة 154 من أصل 180 دولة في عام 2022، مما يشير إلى مستويات حادة من الفساد في القطاع العام. ويقدر البنك الدولي في تقريره لعام 2023 أن الفساد يكلّف العراق ما يقرب من 89 مليار دولار سنوياً، وهي أموال كان يمكن أن تدعم قطاع التعليم بشكل كبير لو تم تخصيصها على نحو صحيح.

الاختلاس وتقويض البرامج التعليمية

يقوّض الفساد البرامج والمبادرات التعليمية المختلفة المصمّمة للحدّ من معدلات التسرّب من المدارس، إذ يتم اختلاس الأموال المخصّصة لبرامج التحويلات النقدية المشروطة، والتي من شأنها توفير حوافز مالية للأسر لإبقاء أطفالها في المدارس. وبالتالي، يقلّل الفساد من فعالية هذه البرامج ومن تأثيرها في تخفيض التسرّب المدرسي.

سوء تشييد المدارس وبيئتها غير الآمنة

سوء إدارة مشاريع البنية التحتية للمدارس هو واحد من الأمثلة الملموسة لتأثير الفساد على التعليم في العراق، إذ أظهرت تقارير البنك الدولي لعام 2023 أن العديد من مشاريع بناء المدارس إما تأخرت أو اكتملت بجودة دون المستوى المطلوب بسبب الممارسات الفاسدة. هنالك أكثر من 3 آلاف مدرسة كانت الحكومة العراقية قد خصّصت أموالاً لإنشائها عام 2010، إلا أنه بعد 12 عاماً من ذلك لم ينفّذ منها سوى 300. ونتج عن هذا الفساد بيئات تعليمية غير آمنة أو غير ملائمة، مما يؤثر بشكل مباشر على حضور الطلاب واستبقائهم في المدارس.

زيادة التكاليف للعائلات بالرشاوى والرسوم غير الرسمية

في كثير من الحالات في المدارس، ينفذ الفساد عبر طلب رشوة ورسوم غير رسمية مقابل خدمات ينبغي أن تكون مجانية، مثل التسجيل أو الحصول على اللوازم المدرسية أو حتى اجتياز الامتحانات. وقد تكون زيادة التكاليف المدرسية هذه باهظة بالنسبة للأسر ذات الدخل المنخفض، مما يجبرها على سحب أطفالها من المدرسة. ووفقاً لتقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2023، غالباً ما تشهد البلدان التي ترتفع فيها مستويات الفساد ارتفاعاً في مثل هذه الرسوم غير القانونية.

سوء تخصيص الموارد

على الرغم من اعتراف العراق بحاجته الملحّة لما لا يقل عن 10 آلاف مدرسة لفك الدوام المزدوج في المدارس، لم يخصّص سوى نحو 1% من النفقات الرأسمالية للبنية التحتية التعليمية، وهي نسبة منخفضة بكل المقاييس.

وفي العام 2021، خصّصت الحكومة العراقية 11.5% من مواردها المتاحة للإنفاق على التعليم العام، وهو ما يقل عن الالتزام المنصوص عليه في إعلان إنتشون* الذي يراوح بين 15 و 20%، أي أن المبالغ المخصّصة لا تكفي لتحقيق حصول الجميع على التعليم الجيد.

إضافة إلى ذلك، تتجاوز النفقات التشغيلية للمدارس والجامعات في العراق 96.9% من إجمالي نفقات التعليم الحكومية السنوية، ومعظمها نفقات الرواتب (90%)، مما يترك موارد مالية محدودة جدا للنفقات التشغيلية الحيوية غير المتعلقة بالرواتب.

*التعليم 2030: إعلان وإطار عمل إنتشون لتنفيذ الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة… ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع.

الفجوة في أعداد المعلمين وممارسات التوظيف

على الرغم من كون العراق الأعلى عالمياً في عدد موظفي القطاع العام (أكثر من 4 ملايين موظف)، هناك فجوة تراكمية في أعداد المعلمين والأساتذة تقدّر بحسب إحصائيات وزارة التخطيط بنحو 88 ألف مدرس.

من جانب آخر، تتأثّر ممارسات توظيف المعلمين والأساتذة بالمحسوبية والرشوة، مما يؤدي إلى توظيف أفراد غير مؤهلين ويجعل التعليم أقل فعالية وجاذبية للطلاب ويعرضهم للتسرّب. وقد حذر البنك الدولي من أن مستويات التعليم بالعراق هي من بين أدنى المستويات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

صفقات الكتب المدرسية

تدخل "طباعة الكتب المدرسية" ضمن صفقات الفساد، فارضة على الأسر العراقية تكاليف جديدة من الإنفاق المدرسي بعد الاستيلاء على مطابع الوزارة وإبرام العقود مع المطابع في الخارج. علاوة على ذلك، يتم تغيير المناهج الدراسية كل بضع سنوات، مما يدر إيرادات هائلة على الجهات المسيطرة على التربية والتعليم ووزارة التربية.

إضراب الأساتذة في كردستان

في العام الدراسي الحالي، حُرم 700 ألف تلميذ من أصل 1.8 مليون في إقليم كردستان من تعليمهم هذه السنة بسبب مقاطعة الكوادر التدريسية الكردية للدوام بسبب تأخر دفع رواتبهم. وسيدفع هؤلاء الطلاب الثمن، ولن يكونوا جزءاً من 13 مليون طالب عراقي في العام الدراسي الحالي 2023-2024.

عقد التأمين الصحي للمعلمين والأساتذة

تسيطر المافيات الطائفية في العراق على وزارة التربية، إذ يديرها مثنى السامرائي، رئيس تحالف العزم "السُنّي"، والمتورط في صفقات فساد كبيرة. وتم توجيه مذكرة من الادعاء العام العراقي إلى مجلس النواب في عام 2020 لرفع الحصانة عنه بسبب تورطه في عقد "التأمين الصحي" مع شركة "أرض الوطن" المملوكة لمستثمرين لبنانيين، وقد بلغت قيمته 41 مليار دينار عراقي (33 مليون دولار). رغم ذلك، لم يتم رفع الحصانة عن السامرائي ولم يحاكم، كذلك الأمر بالنسبة لوزيرة التربية سهى العلي وغيرها من الشخصيات التي تدين له بالولاء، لأنه يتمتع بحماية من الجناح السياسي والعسكري التابع لإيران. أثارت الصفقة الفاسدة جدلاً واسعاً بين الأحزاب السُنيّة، إذ تم خصم مبلغ من رواتب الموظفين (5500 دينار عراقي، 4.21$) لخدمات صحيّة لم يحصلوا عليها البتة.

أثر تدنّي جودة التعليم وارتفاع التسرّب المدرسي على المجتمع العراقي

أمام التحديات الكبرى التي يواجهها قطاع التعليم من نقص في الميزانية والمباني والمعلّمين المؤهلين والموارد التعليمية، تنخفض جودة التعليم في العراق، ساحبة معها مهارات الطلاب، وإنتاجيتهم، وإشراقة مستقبلهم.

انخفاض كبير في معرفة الطلاب ومهاراتهم

تشير التقديرات إلى أن "متوسط سنوات الدراسة المتوقّعة" التي من الممكن أن يكملها الأطفال في العراق هو 6.9 سنوات دراسية، مقارنة بـ 11.3 سنة دراسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن، عند الأخذ بعين الاعتبار مقدار التعلم الذي يحدث بالفعل، سيحقق الطفل العراقي 4.0 سنوات دراسية فقط من التعلم المعدّل التعليم (LAYS) بحلول سن 18 عاماً، مقابل متوسط 7.6 سنوات دراسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وهذا يعني أن نحو 42 % من الوقت الذي يقضيه التلميذ في المدرسة هو مجرد هدر ولا يساهم في تنمية مهاراته. ويعني أيضاً أن الأطفال الذين يولدون اليوم سوف يصلون، في المتوسط، إلى 41 % فقط من إنتاجيتهم المحتملة كموظفين بالغين.

إعاقة النمو الاقتصادي

وفقاً لتقرير البنك الدولي لعام 2023، فإن الأفراد الذين لا يحملون شهادة الدراسة الثانوية هم أكثر عرضة للبطالة بمقدار الضعف مقارنة بأولئك الحاصلين أقلّه على تعليم ثانوي. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن كل سنة إضافية من الدراسة يمكن أن تزيد دخل الفرد نحو 10%، مما يسلط الضوء على الفوائد الاقتصادية للتعليم من ناحية، وخطورة التسرّب المدرسي من ناحية أخرى.

التشرذم الاجتماعي والأيديولوجيات المتطرفة

وفقاً لتقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2023، شهدت المناطق التي ترتفع فيها معدلات التسرّب من المدارس زيادة في حوادث العنف والاضطرابات، مما يسلط الضوء على العلاقة بين التعليم والأمن الوطني. وتؤدي معدلات التسرّب على نطاق واسع إلى التشرذم الاجتماعي، حيث يكون الأفراد غير المتعلّمين أكثر عرضة للأيديولوجيات المتطرفة والتجنيد من قبل الجماعات المسلحة.

ختاماً، يبدو واضحاً أن المسؤول الأول عن الأوضاع التعليمية الكارثية هو الحكومات العراقية المتعاقبة. فكيف ولماذا لم تكفِ كل الإجراءات التي اتخذتها، ومعظمها بدعم وتمويل خارجي، إلى تعويض الخسائر المتراكمة على المستوى التربوي؟ وهل لدى الحكومة العراقية خطة حديثة ومتطورة لإنقاذ جيل من الشباب من براثن الأمية المقنّعة، أم أنها تتقصّد القضاء على ما تبقّى من التعليم الرسمي دعماً للجهل وهو وقود للتطرف الديني؟

Previous
Previous

كيف ساهم الفساد في الانحدار الخطير للتعليم العالي في العراق؟

Next
Next

        ‫‫‬‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‫‬‫‬‫‬‫‬ 69 في المئة من الكويتيين... غير مدخّنين