عدوان غزة... هكذا تتجدد سياسات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين
عبر التاريخ، تميّزت بريطانيا في استخدام الاستعمار الاستيطاني في كثير من دول العالم، وقبيل انتهاء الاستيطان بعد الحرب العالمية الثانية، لجأت إلى حل آخر ومعها دول الاستيطان التاريخية، من خلال إنشاء دولة إسرائيل. وبهدف تعديل التركيبة الديموغرافية بين العرب واليهود، ارتُكبت أولى المجازر بحق الشعب الفلسطيني سنة 1936، إبان الاستعمار الإنكليزي، وظلت متقطعةً طوال عقد، لكنها تكثّفت بشكل كبير في عامي 1947 و1948، أي خلال العامين اللذين سبقا إعلان قيام "دولة إسرائيل"، حيث تم ارتكاب 49 مجزرةً.
الوظيفة التهجيرية للمجازر الصهيونية
في أثناء ارتكاب تلك المجازر، اعتمدت العصابات الصهيونية على تكتيك يقضي بترك منفذ للهرب، لمن استطاع من السكان أن يبقى على قيد الحياة، وإبلاغ القرى الأخرى بما حصل من فظائع، بهدف نشر الترويع في القرى الفلسطينية ودفع أهلها "للنجاة" بأنفسهم.
نجحت هذه السياسة آنذاك... وقُتل ما يعادل 1% تقريباً من الشعب الفلسطيني، وهُجّر ما يصل إلى 81% منه. كان عدد الفلسطينيين في المدن والقرى التي تم إعلانها "دولة إسرائيل"، ما يقارب 800 ألف نسمة، وقد تم تهجير نحو 650 ألفاً منهم، وفي المقابل، أتوا باليهود من مختلف أرجاء العالم، لا سيما من روسيا وأوروبا الشرقية وفرنسا من أجل توطينهم على أرض فلسطين، ووصل عددهم إلى 600 ألف يهودي خلال السنتين الأوليين لإعلان الدولة.
بحسب دراسة نشرها مركز القدس للدراسات، عن تاريخ اليهود في فلسطين، يتبين أنه حتى عام 1839، بلغ عدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين ستة آلاف، مقابل 300 ألف فلسطيني عربي، وهذا يعني أن نسبة اليهود لم تكن تتجاوز 2% في ذلك الوقت. إلا أن موجات الهجرة المنظمة من مختلف أرجاء العالم، والتي توالت خلال ستة عقود لاحقة، أدت إلى رفع عدد اليهود في فلسطين إلى ما يقارب 559،000 يهودي. ويشير جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني إلى أن عدد السكان في فلسطين، في العام 1948، بلغ أكثر من مليونين، منهم نحو 31.5% من اليهود.
العصابات الصهيونية تؤسس الجيش... والمجازر تتواص
بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، سنة 1948، وجلاء القوات البريطانية، كوّنت العصابات الصهيونية وقادتها أمثال موشي ديان وأرييل شارون ومناحيم بيغن؛ الجيش الإسرائيلي الذي تولّى استكمال المجازر، بعد أن نقلها إلى مرحلة أكثر إجراماً وفتكاً بالفلسطينيين، إذ وصل عدد ضحايا مجازره حتى عام 1956، إلى عدد ضحايا العصابات الصهيونية نفسه تقريباً، ما قبل الـ48.
اعتداءات على أنواعها بحق الشعب الفلسطيني
وشملت الاعتداءات أيضاً إلقاء القنابل اليدوية على التجمّعات الفلسطينية، لا سيما في الأسواق والمقاهي، واستخدام براميل البارود والعبوات الناسفة في استهداف المنازل والفنادق، والسيارات المفخخة، وتفجير القطارات.
ويضيف: "يرتكز الفكر الصهيوني إلى أربع أفكار رئيسة، هي: التوسع في ضم الأراضي، الفصل القومي، التفوق اللاهوتي والهيمنة. أما آليات تنفيذ الأفكار والأهداف، فقد عبّر عنها صراحةً دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، بقوله: 'إن الوضع في فلسطين سيُسوّى بالقوة'، من خلال عدد من الأهداف، أبرزها: إخلاء السكان الفلسطينيين من أراضيهم بالوسائل كافة، ومحو وإزالة كل ما يثبت الوجود الثقافي والتاريخي للشعب الفلسطيني. أما ترجمة ذلك على أرض الواقع فكانت في نكبة عام 1948، بالإرهاب والترويع الذي تولته العصابات الصهيونية".
آنذاك، بحسب منّاع، "ساعدت في التطهير العرقي بحق الفلسطينيين الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، وهي الدول نفسها التي تستمر في دعم الاحتلال الصهيوني اليوم في عدوانه على قطاع غزة. كما ساهم فيها المجتمع الدولي الذي فشل خلال 75 عاماً في إيجاد آليات تكبح آلة القتل الصهيونية. أما أهم مظاهر التطهير العرقي، فظهرت في المجازر، ومحاولة إبادة وتهجير قرى بأكملها، وهذا ما حصل في أكثر من 530 قريةً فلسطينيةً".
"في كل هذه المجازر، كان السعي الدائم إلى تكريس الإرهاب بالقتل عبر الإبادة الجماعية لتشكيل بيئة مساعدة على عملية التطهير العرقي من خلال إخلاء المكان والجغرافيا بالكامل، وإزالة القرى بشكل كلي، واستبدالها بمستوطنات يهودية، أو تركها كمناطق جرداء وإطلاق أسماء يهودية عليها"، يشير منّاع.
العدوان على غزة استكمال للإبادة والتهجير
كذلك، في عدوان غزة اليوم، تستمر إسرائيل في سياساتها الاستعمارية الاستيطانية من خلال العمل على إبادة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وعلى تهجير القسم الباقي إلى خارجها. واسترجعت إسرائيل التكتيك ذاته الذي استخدمته في مجازر عام 1948، من تعمّد استهداف المدنيين في شمال قطاع غزة ووسطه، وترك مجال لهم للنزوح إلى جنوب القطاع على الحدود مع مصر، تمهيداً للقيام بعملية ترحيل جماعي باتجاه صحراء سيناء.
يقول منّاع: "آلة القتل الصهيونية تستمر اليوم في عمليات تطهير عرقي واضح في قطاع غزة، مع فارق تكثيف التمادي بوحشية المجازر على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه، وبدعم غربي سافر، كذلك بتطور تكنولوجي في تجربة استخدام أسلحة محرّمة دولياً، كقنابل الفوسفور والزلزال وكمية هائلة من الصواريخ تضاهي قنبلتين نوويتين، والتلويح برمي قنبلة نووية في عصر حقوق الإنسان. ونتيجة الفشل في العمليات العسكرية، تمارس القوات الصهيونية حرب الإبادة والتطهير العرقي بقتل أكثر من 10 آلاف فلسطيني من المدنيين، نصفهم تقريباً من الأطفال، في مجازر شبه يومية، كمجزرة المستشفى المعمداني ومجازر مخيمات جباليا والنصيرات وغيرها، مع حملة تجويع مسعورة وقطع مختلف أنواع الإمدادات من وقود وكهرباء ومياه وأدوية في أبشع وجوه العقاب الجماعي.
من جهته، يقول الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، رازي نابلسي، إنه "منذ العام 1948، تعاملت إسرائيل مع الفلسطينيين كعقبات طبيعية تُشبه الجبل والشجر، يمكن إزاحتها من طريق بناء المشروع الصهيوني في فلسطين، وهو ما رافقته عمليّة نزع للإنسانية وعملية إنكار لوجود الفلسطيني كشعب وهوية قومية. وما يحصل اليوم لا يختلف لا من حيث الإطار الأيديولوجي، ولا من حيث القوة العسكرية، ولا الدعوات العلنية للطرد. وبرغم أنه يحصل على مرأى العالم، إلا أن الظروف لا تختلف كثيراً عما حصل سابقاً، وعلى جميع الأصعدة: العالم ينظر، ولكنه يهتم لمصالحه الإقليمية والدولية الأهم بالنسبة له؛ عالم عربي مسيطَر عليه، وأيضاً منشغل بمصالح ضيّقة، وشعب مفتت دون أي رؤية أو نظام سياسي موحّد".