أصوات المغتربين الفرنسيين تعاكس تيار اليمين المتطرف.. بالأرقام

صوّتت غالبية الفرنسيين المغتربين في الدورة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية المبكرة بإتجاه معاكس لموجة صعود اليمين المتطرف في البلد الأم إذ لم يتأهل أي من مرشحي اليمين المتطرف في أي من الدوائر الـ 11 المخصصة للمغتربين.

شهدت الانتخابات التشريعية الفرنسية إقبالاً لافتاً للانتباه، إذ صوّت حوالي 33 مليون من أصل 49 مليون ناخب، أي بنسبة 67%. وأظهرت النتائج إكتساح اليمين ولا سيما “التجمع الوطني”، مع حصول تحالف مارين لوبان على أكثر من 33% من أصوات المقترعين على المستوى الوطني، بالإضافة إلى 3% للأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى. واللافت للانتباه هو صعود مرشحي “الجبهة الشعبية الجديدة” (اليسارية) في دوائر الإغتراب التي شهدت إقبال 574 ألف مقترع أي بنسبة 37%. وقد صوّت ثلث هؤلاء حضوريًا والثلثان الآخران عبر التصويت الإلكتروني. وفي المحصلة، تأهل مرشحو “الجبهة الشعبية” في 10 دوائر من أصل 11 وتعذر عليهم التأهل في دائرة واحدة للمسجلين في إسرائيل إذ أن ثلث مقترعيها سجلوا أنفسهم في تل أبيب وهي الدائرة رقم 8، بمعنى آخر، هذه الدائرة مخصصة عمليًا لوصول نائب اسرائيلي. ومن اللافت للانتباه أيضاً أن “التجمع الوطني” بزعامة لوبان، لم يُرشّح أي شخص في هذه الدائرة التي يترأسها النائب الفرنسي الإسرائيلي ماهر حبيب منذ سنين وجرت العادة أيضاً أن يفوز بالتزكية! ولوحظ حصول “الجبهة الشعبية الجديدة” على نسب عالية من الأصوات في دوائر مثل أميركا الشمالية لم تكن بعيدة عن نتائج تحالف إئتلاف الوسط الداعم للرئيس الفرنسي ماكرون. ويُخصّص القانون الفرنسي 11 مقعدًا للمغتربين الفرنسيين. حصل ذلك في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012) لزيادة عدد نواب اليمين كون المغتربين الفرنسيين عادة ما يصوتون لليمين الوسطي.
وحسب قانون الانتخابات الفرنسي، فإن نظام الانتخاب يستند إلى “صوت واحد لمقعد واحد”، أي يُخصّص مقعد واحد لكل دائرة، وبالتالي يقترع الناخب لمرشح واحد. وتجرى الانتخابات على دورتين، يتأهل لخوض الدورة الثانية من يتخطى في دورتها الأولى عتبة 12.5% من عدد الناخبين المسجلين، ويفوز من الدورة الأولى من دون الحاجة إلى دورة ثانية من ينال أغلبية مطلقة من أصوات مقترعي دائرته، أي أكثر من 50%، على أن تُمثّل نسبة 25% من الناخبين المسجلين في دائرته (راجع الجدول أعلاه).

المؤهلون للدورة الثانية في الإغتراب

دائرة الإغتراب الرقم 10 هي واحدة من هذه الدوائر الـ 11 التي تضم دول المشرق العربي ودول الخليج وبعض دول إفريقيا ما عدا دول المغرب العربي علمًا أن مرشحين إثنين من أصل 12 مرشحًا في هذه الدائرة هم من أصول لبنانية. في بيروت وبإستثناء حصول المرشح لوقا لمعة على أغلبية الأصوات حاصدًا 1415 صوتًا، أي ما نسبته 26.5% من الأصوات في بيروت، وهي نسبة لم يحصل لوقا على مثيلها في أي بلد آخر، حقّقت مرشحة “الجبهة الشعبية الجديدة” ايلسا دي مايو الإشتراكية نتائج لافتة للانتباه بحصولها على 1399 صوتًا، أي 26.2% متفوقةً على نائبة الدائرة المخضرمة اميليا لاكرافي (حزب ماكرون) التي حصلت على 1200 صوت، أي 22.4% وهي النسبة الأدنى التي تحصل عليها هذه المرشحة ضمن دول الدائرة العاشرة التي تخطى فيها عدد المقترعين الألف كما هو مبين في الجدول التالي:
يمكن اعتبار هذه النتيجة سابقة في التصويت لمصلحة اليسار وبخاصة أن معظم الناخبين الفرنسيين المسجلين في لبنان هم من أصول لبنانية وكانوا من المؤيدين لماكرون. وعلى الأرجح، تفاعل الفرنسيون من أصول لبنانية سلبًا مع المبادرات الفرنسية التي أطلقها إيمانويل ماكرون لا سيما بعد تفجير مرفأ بيروت في الأول من آب/أغسطس 2020، ومن ثم دعمه ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، كذلك تأثروا بموقف اليسار الفرنسي ومواقف جان لوك ميلونشون الداعمة للفلسطينيين والتي أدانت التطهير العرقي الذي تقوم به إسرائيل على أرض قطاع غزة منذ تسعة أشهر حتى الآن. هذا الأمر يظهر جليًا في صندوق القاهرة إذ أعطى 48% من الناخبين هناك أصواتهم لإيلسا دي مايو، وهي أعلى نسبة على الإطلاق تحصل عليها فيما لم يحصل مرشح اليمين المتطرف سوى على 7%. كذلك الأمر، حصلت المرشحة اليسارية على 41% من أصوات المقترعين في السعودية علماً أن كثيرين من الناخبين هناك من أصول عربية ومن التقنيين الفرنسيين العاملين في القطاع النفطي. وبرزت دول الإستعمار الفرنسي التقليدي بتصويتها الداعم لليمين المتطرف حيث حصل مرشحو “التجمع الوطني” وغيره من المتطرفين اليمينيين على أغلبية الأصوات في الغابون ومدغشقر وجزر الموريشيس. وإذا كان المغتربون الفرنسيون تاريخيًا هم من مؤيدي اليمين، فإن الماكرونية السياسية التي سحقت الأحزاب التاريخية التقليدية في فرنسا منذ 2017 وبخاصة يمين الوسط، لم تدم طويلاً (هناك من يُردّد بأنها أنجزت مهمتها!)، لكن أخطر ما فيها هو تفريغ السياسة وتجريفها من عقائدها وانقسامها التقليدي (يمين ويسار)، معتمدة على خطط وبرامج مباشرة تقيس الربح والخسارة من دون الرجوع الى ضوابط وأسس فكرية تمّ بناؤها عبر العصور. هكذا يخسر هذا النموذج في القيادة برغم مرونته وبراغماتيته وانتهازيته وسرعة إنجازاته بسبب تحويله السياسة إلى مشروع اقتصادي استثماري بحت. نعم، سقط هذا النموذج في لحظة الصراعات الكبرى من أوكرانيا إلى غزة، إذ وجد نفسه أسير ما تمليه عليه الولايات المتحدة، فكان نصيبه السقوط في مواجهة التحديات العالمية من هجرة وتغير مناخي وتعددية قطبية سياسية واقتصادية.

ويبقى السؤال لماذا لم يُصوّت المغتربون مثل مواطنيهم في بلد الأم؟

لا شكّ أن الدائرة العاشرة تعكس إلى حد بعيد موقف اليسار الداعم للشعب الفلسطيني غير أن سقوط اليمين المتطرف في جميع الدوائر الـ11 الإغترابية يُمكن تفسيره استنادًا إلى غياب العامل الأساسي الذي روّج له “التجمع الوطني” وهو التخويف من الهجرة و”الإسلاموفوبيا”، فأي مغترب في أي بقعة من بقاع العالم هو أيضًا مهاجر ويحتك مع عدد كبير من الشعوب المختلفة وليس أسير حملات إعلامية سيّطر عليها ظهور الشاب جوردان بارديلا، رئيس حزب “التجمع الوطني”. وبين اليمين الفرنسي المُدمّر على يد ماكرون وضعف العوامل المحفزة للتصويت لـ”التجمع الوطني” لدى المغتربين، تبدو “الجبهة الشعبية الجديدة” اليسارية أكثر اقناعًا للمغتربين وفي ذلك رهان على أنها جديرة بالحفاظ على فرنسا، كما عهدوها منذ عقود طويلة. في المحصلة، لن يستفيد الاغتراب الفرنسي من تحالف بعض اليسار مع معسكر ايمانويل ماكرون في الدورة الثانية المقررة يوم الأحد المقبل، في إطار تحالف ظرفي يشوبه الكثير من الشوائب بسبب تفضيل بعض اليمين مارين لوبان على جان لوك ميلانشون.. لماذا؟ لأن دوائر الإغتراب أثبتت أنها ليست بحاجة إلى مثل هذا التحالف كون اليمين المتطرف سقط منذ الدورة الأولى في الدوائر الاغترابية كلها.
Previous
Previous

كسَر الملل أم التابوهات؟... لماذا تفوّق البودكاست العربي على الإعلام التقليدي؟

Next
Next

Trapped by white phosphorus: Israel causes an environmental and humanitarian catastrophe in Lebanon