كيف تتآمر "السلطة السياسية" على الجامعة اللبنانية؟ ولماذا؟
قبل نحو شهر، قرر ثلاثة طلاب من الجامعة اللبنانية أن يتقدّموا بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة لإبطال القرار الصادر عن وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، ووزير التعليم العالي عباس الحلبي، والذي ينص على مضاعفة رسوم التسجيل في الجامعة بأكثر من عشرة أضعاف. وأتى تقديم هذه المراجعة بمبادرة من اتحاد الطلاب العام وبالتعاون مع المفكرة القانونية، استناداً إلى أنه يتعارض مع قوانين موازنة سابقة ومع قانون تنظيم الجامعة اللبنانية على حدّ سواء.
وشهدت الجامعة اللبنانية في السنوات الأخيرة تراجعاً ملحوظاً على المستويات كافة، نتيجة تدخّل الأحزاب السياسية في كامل تفاصيلها، وإعطاء الأولوية للمحسوبيات على حساب الكفاءة من خلال التوظيفات العشوائية، فضلاً عن التعيينات في المناصب الإدارية من العمادة إلى أصغر تفصيل وغيرها الكثير من المشكلات، تُضاف إليها الأزمة الاقتصادية التي سرّعت في تظهير هذا الانهيار.
إذاً الأزمة عميقة، والتعليم العالي في لبنان ليس بخير. والأزمة لا تنحصر في الجامعة اللبنانية فحسب، بل تطال أيضاً الجامعات الخاصة التي يمكن وصف غالبيتها "بالدكاكين". وبما أن الموضوع كبير ومتشعب، سنخصّ الجامعة اللبنانية بهذا المقال، على أن نعود للجامعات الخاصة في مقال لاحق.
تأرجح أعداد الطلاب في الجامعة اللبنانية
بالنسبة إلى الجامعة اللبنانية، فقد حافظت على عدد طلابها الذي يقارب الـ70،000 طالب منذ عام 2001 وحتى عام 2015. بعدها، ارتفع عدد الطلاب تدريجياً منذ 2015، ليصل في عام 2021 إلى 86،752 طالباً (أي زيادة بنسبة 24%)، غير أن هذا الارتفاع لم يستمر، وبدأ العدد ينخفض تدريجياً ليصل هذا العام (2023)، إلى 64،794 طالباً، بحسب معلومات رسمية من الجامعة غير منشورة حصلنا عليها، أي أن الجامعة خسرت 21،958 طالباً خلال سنتين (نسبة الخسارة 25%).
لكن إن أخذنا في الحسبان إجمالي الملتحقين بالتعليم العالي، يتبيّن أن التراجع في نسبة الملتحقين بالجامعة اللبنانية، بدأ منذ أكثر من عقدين. فبعد أن وصلت نسبة الملتحقين باللبنانية إلى 59% عام 2001، انخفضت إلى 34% عام 2022. وفي المقابل، ارتفعت نسبة الملتحقين بالجامعات الخاصة من 41% عام 2001، إلى 66% عام 2022.
ولم يكن هذا التراجع في حصة الجامعة اللبنانية من التعليم العالي، نتيجةً لتراجع جودة التعليم فيها، بقدر ما كان نتيجةً "للتآمر" عليها من خلال السياسات التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية "المدروسة" مع مطلع كل عام دراسي لتهشيم صورتها في المجتمع وعند الطلاب وأهاليهم.
كيف تم التآمر على الجامعة الوطنية؟
هذه السياسات الموجعة للجامعة اللبنانية ظهرت تداعياتها تباعاً، ويمكن تلخيص آثارها السلبية في أربع نقاط:
أولاً: تحكّم السلطة السياسية -خلافاً لقانون تنظيم الجامعة اللبنانية وبعيداً عن المعايير الأكاديمية- بعملية تفريغ الكادر التعليمي في الجامعة، علماً بأن قرار التفرّغ هو قرار أكاديمي تنظّمه المادة 37 من قانون تنظيم الجامعة لسنة 1967، والتي تنص على وجوب تثبيت الأستاذ المتعاقد بعد سنتين من تعاقده بناءً على الحاجة، وبتوصية من مجالس الأقسام في الكليّات، وبقرار يُتَّخذ في مجلس الجامعة، من دون ربط ملفّات الأساتذة ببعضها البعض وإدخالها في بزار التجاذب السياسي الطائفي، كما يحصل حالياً.
فخلال العقدين الماضيين، لم يتم تفريغ سوى دفعتين فقط من الأساتذة؛ الأولى في العام 2008، وشملت نحو 800 أستاذ، والثانية في العام 2014 وشملت نحو 1،200 أستاذ، علماً بأن عدد الأساتذة الذين يتقاعدون يصل تقريباً إلى 120 أستاذاً سنوياً، مما يشير إلى حاجة الجامعة اليوم إلى تفريغ ما لا يقل عن 1،680 أستاذاً لتعويض خسارة من تقاعدوا من الجامعة.
وتجدر الإشارة إلى أن قرار التفرّغ في العام 2014، ساهم في انتظام العمل الأكاديمي، واستحداث ماسترات متخصّصة، وتنشيط مراكز الأبحاث. وبناءً على ذلك تمّت إقامة شراكات مع جامعات أجنبية، وأصبحت بعض الماسترات مشتركةً مع جامعات في الخارج. وأدّى هذا التعاون إلى تعزيز الكادر التعليمي، وتحسين نوعية التعليم وجودته في الجامعة التي حسّنت من مستوى تصنيفها علمياً، كما فتح آفاقاً واسعةً لطلابها في سوق العمل.
منذ العام 2014، والجامعة اللبنانية تخسر الكثير من أساتذتها. لكن السلطة السياسية لا تزال ممعنةً في إضعافها وضرب الكادر التعليمي فيها. فلا صلاحيات مجلس الجامعة أعيدت له، ولا اتُّخذ قرار بملء الفراغ وتفريغ الأساتذة المرفوعة أسماؤهم إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، إذ رفضت هذه السلطة وضع ملف الجامعة على جدول أعمال مجلس الوزراء طوال خمس سنوات، وتحديداً منذ العام 2018.
ومن جرّاء عدم تعزيز الكادر الأكاديمي في الجامعة، تم ضرب المعايير الأكاديمية فيها، إذ وصلت نسبة الأساتذة المتعاقدين بالساعة إلى 69%، في حين يجب ألّا تتجاوز نسبتهم 20% كما ينص عليه قانون الجامعة. حالياً، يصل عدد أساتذة الجامعة إلى 4،800 أستاذ؛ منهم 1،500 في الملاك، و3،300 تعاقدوا بالساعة، ومنهم نحو 1،500 يمارسون التعليم ونصيبهم كاملة، وتالياً التفرغ حقّ لهم وللجامعة.
ثانياً: عدم تعيين العمداء في مجلس الوزراء بسبب الخلاف على الحصص وصراع القوى الطائفية خصوصاً على الكليّات الكبرى، بعيداً -طبعاً- عن أية معايير أكاديمية. ونتيجةً لذلك، تم تعطيل مجلس الجامعة المكوّن من 19 عميداً لأكثر من 16 سنةً، على مدى 20 سنةً. هذا التعطيل حدّ بطبيعة الحال من قدرة المجلس على تطوير الجامعة، إذ حُصرت مهام جميع العمداء المكلّفين بالإنابة بتسيير الأعمال في كليّاتهم من دون امتلاك القدرة على التطوير الجذري.
ثالثاً: الإصرار على تجميد موازنة الجامعة عند مستوى 400 مليار ليرة سنوياً (أي ما كان يعادل 265 مليون دولار سنوياً)، وعدم زيادتها لتلبية احتياجات التطوير، وبقيت على ما هي عليه خلال العامين 2020 و2021 على الرغم من انهيار الليرة أمام الدولار.
أيضاً، وفي موازنة العام 2022، عمدت الحكومة إلى زيادة المصاريف التشغيلية لجميع الإدارات العامة عشرة أضعاف، إلا أنها لم تطبّق هذه القاعدة على موازنة الجامعة اللبنانية، ولولا المطالبات التي حصلت في المجلس النيابي لما رُفعت الموازنة إلى ما يعادل 7.5 ملايين دولار، أي أن الموازنة خُفّضت بنسبة 97%!
للمقارنة لا أكثر؛ تبلغ موازنة الجامعة اللبنانية الأمريكية نحو 181 مليون دولار سنوياً (24 ضعفاً لموازنة الجامعة اللبنانية)، ولديها 8،400 طالب، أي أقل من عدد طلاب الجامعة اللبنانية بـ9 أضعاف.
يؤكد الإصرار على عدم تعديل موازنة الجامعة اللبنانية، قبل الأزمة وبعدها، على سياسة الإضعاف الممنهج للجامعة اللبنانية لتموت موتاً بطيئاً، وتدفع الأساتذة والطلاب إلى مغادرتها. فالأستاذ الجامعي الذي لا يتجاوز راتبه الشهري 63 دولاراً (وفق سعر صيرفة)، وصل مؤخراً مع المساعدات وبدل الإنتاجية إلى نحو 450 دولاراً. والأستاذ المتعاقد بالساعة (الأساتذة المتعاقدون يشكلون الأغلبية الساحقة)، وبنصاب يصل إلى 350 ساعةً سنوياً، يصل راتبه السنوي الذي تم تحويله في صيف 2023، إلى 308 دولارات، أي ما يوازي 25 دولاراً شهرياً. هذا الواقع البائس دفع بأكثر من 30% من أساتذة الجامعة إلى التوقف مؤقتاً عن التدريس (ما بين إجازة سنة سابعة، وإجازة من دون راتب، وتجميد عقد التفرّغ، وفسخ عقود لأساتذة متعاقدين بالساعة التحقوا بجامعات خاصة في لبنان وخارجه).
رابعاً: عدم ضغط الحكومة والسلطة السياسية على شركات الطيران لتحويل أموال فحوص الـPCR التي هي حق للجامعة اللبنانية، والتي تشكل أكثر من 6 أضعاف ميزانية الجامعة، ويمكنها أن تساهم في تشغيل الجامعة على المدى القريب.
هذه كانت أبرز المؤشرات التي تُظهِر كيفية تعاطي الحكومة مع قضية الجامعة اللبنانية، والتي تؤكد أن مصطلح "الأزمة" لا يعبّر عن حقيقة ما تتعرّض له الجامعة الوطنية من خطة تدمير ممنهج للوصول بها إلى حالة الموت السريري خدمةً للتعليم العالي الخاص الطائفي-الزبائني والتجاري.
ما مصلحة بعض الجامعات الخاصة في إضعاف الجامعة اللبنانية؟
إلى جانب ذلك كله، تتعرّض الجامعة اللبنانية لحملات إعلامية "مدروسة" مطلع كل عام دراسي لتهشيم صورتها، وهذا الأمر تساهم فيه قوى مختلفة من ضمنها بعض الجامعات الخاصة. الغاية من هذه الحملات خلق حالة من القلق لدى الطلاب الجامعيين وأهاليهم، بهدف دفعهم نحو التوجّه إلى جامعات خاصة طائفية أو تابعة لأطراف سياسية، والتي من جانبها تقدّم عروضاً مغريةً دون أن تأبه بنوعية التعليم.
ما الغاية من ضرب الجامعة اللبنانية وإضعافها؟
أمّا الجامعة اللبنانية، فقد نشأت بفعل حركة اجتماعية مطلبية ذات مضمون اقتصادي واجتماعي وطني بعيد عن الانقسامات الطائفية. ولم تكن الجامعة اللبنانية منذ تأسيسها مجرد صرح تعليمي، بل شكّلت على الدوام صرحاً وطنياً في خدمة المجتمع، وساهمت تاريخياً في توفير التعليم الجيّد لفئات اجتماعية واسعة. كما أنها أحدثت تحوّلات اجتماعيةً في المجتمع، ونقلت فئات اجتماعيةً من مواقع هامشية إلى مواقع أكثر فاعليةً؛ فالارتقاء الاجتماعي وخلْق الطبقة الوسطى ما كانا ليتحققا لولا التعليم الجامعي الذي وفّرته الجامعة اللبنانية.
التوزيع المناطقي للطلاب على أفرع الجامعة اللبنانية
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بإمكان الجامعة الوطنية أن تلعب دوراً ريادياً في مواجهة التحدّيات الجديدة. ومن دون هذه الجامعة وإعادة إنتاج كوادر وكفاءات شابة فيها، لن تكون هناك إمكانية للنهوض.
قبل فترة، كان مطلب استعادة صلاحيات مجلس الجامعة حاجةً ومطلباً لأهل الجامعة وحدهم، أمّا اليوم، فقد أضحت استعادة الصلاحيات وتفرغ أساتذة الساعة، حاجتين ضروريتين للمجتمع اللبناني برمته، وجزءاً من خطة الخروج من الانهيار الذي يعيشه لبنان.