أثر الأزمة اللبنانية على قطاع التعليم... الأرقام لا تُظهر تسرّباً مدرسيّاً

يكثر الحديث عن الواقع التعليمي في لبنان، وتحديداً بعد الأزمة الاقتصادية التي ألمّت به في السنوات الأخيرة. اللافت في كُل ما يُقال، أنه فعلياً لا يستند إلى وقائع محددة، سوى حديث من قبيل "أثر الأزمة"، "التسرّب المدرسي" و"اللاجئين السوريين"، في ظل غياب أي دراسات حقيقية تعطي صورةً واقعيةً مبنيةً على حقائق واضحة.

وتقتصر المعلومات الرسمية الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، على التعليم النظامي في القطاعين العام والخاص، في دوام قبل الظهر، ولا تشمل التعليم في دوام بعد الظهر، على الرغم من أنه يضمّ ما يقارب 150 ألف تلميذ غالبيتهم من السوريين. في المقابل، فإن المعطيات عن التعليم بعد الظهر شحيحة وتقتصر على ما يتم نشره في التقارير الفصلية الصادرة عن قطاع التربية في فريق التنسيق الخاص بخطة الاستجابة للأزمة السورية التابع لمنظمات الأمم المتحدة في لبنان، والتي غالباً تهتم فقط بمخاطبة الجهات المانحة وتبرير إنفاق الدعم الذي تقدّمه.

يُعدّ الإنفاق على التعليم عند الأسر اللبنانية، من الأولويات وليس الكماليات، وعندما يطرأ تعديل على التعليم، فهذا يشير إلى أن حجم تأثير الأزمة قد وصل إلى حد كبير في الضغط على ميزانية هذه الأُسر.

الأزمة وحجم التغيير

تشير المعطيات الإحصائية عن التعليم في لبنان خلال السنوات الأربع الماضية، إلى تغيير تدريجي في تعامل الأسرة مع نوعية التعليم تحت ضغط الأزمة الاقتصادية. ويتجلى هذا التغيير في عاملين أساسيين هما: الانتقال من التعليم الخاص المجاني والخاص غير المجاني، إلى التعليم الرسمي بنسبة وصلت في العام الدراسي 2020/ 2021، إلى نحو 6% من إجمالي عدد التلامذة في لبنان، حيث انخفضت النسبة في التعليم الخاص المجاني والخاص غير المجاني من 65.9% في العام الدراسي 2017/ 2018، إلى 59.9% في العام الدراسي 2020/ 2021، إلا أنها عادت وارتفعت في العام الدراسي 2021/ 2022، لتصل إلى نسبة 65.1%، ومن دون القدرة على تحديد النسبة في العام الدراسي 2022/ 2023، بسبب عدم صدور المعطيات الإحصائية عن المركز التربوي للبحوث والإنماء.
تشير هذه المعطيات إلى أن تراجع حصة التعليم الخاص كان جلياً خلال العام 2020/ 2021، وهي الفترة التي بدأ فيها تسجيل التلاميذ أواخر العام 2020، عندما بدأت تداعيات الأزمة الاقتصادية تتفاقم على المستوى المعيشي. يُمكن ملاحظة انخفاض أعداد التلامذة المسجلين في التعليم الخاص، وتقابله زيادة ملحوظة في التعليم الرسمي وصلت إلى نحو 42 ألف تلميذ.

لكن تراجع حصة التعليم الخاص من التعليم العام بنسبة تصل إلى 6%، بدأ قبل انفجار الأزمة، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وزاد معها. ويعتبر هذا التراجع أحد المؤشرات المبكرة للأزمة، إلى جانب مؤشرات أخرى مثل إقفال العديد من المؤسسات الإنتاجية والتجارية، والارتفاع التدريجي لمؤشرات البطالة.

بالعودة إلى تلك المرحلة، أقدمت مدارس خاصة في العام الدراسي 2018/ 2019 على رفع الأقساط بذريعة تغطية سلسلة الرتب والرواتب للأساتذة في التعليم الخاص، وعدم احتساب الزيادات الجزئية التي فرضتها في الأعوام السابقة، ما أدى إلى بروز الخلافات بين الأهالي وإدارات هذه المدارس.

وأمام عدم قدرة وزارة التربية على الحد من توجه العديد من أصحاب المدارس الخاصة، شهد العام الدراسي 2019/ 2020 حركة انتقال طفيفة، ثم ارتفعت مع انفجار الأزمة في العام الدراسي 2020-2021، وتمثلت حركة الانتقال هذه، من مدارس خاصة أقساطها مرتفعة ولم تعد تتلاءم مع قدرة الأهالي المادية، إلى مدارس قسطها أقل، ومن مدارس خاصة إلى مدارس رسمية.

يتضح من الأرقام التي ينشرها "المركز التربوي"، أن عدد التلاميذ في القطاع الخاص عاد ليكون كما كان قبل الأزمة، وهنا يُطرح السؤال: هل هذا مرتبط بأن غالبية المدارس الخاصة لم تعمد إلى تعديل رسومها، والتي أصبحت مع انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار بمتناول جميع الأسر؟ قد يكون من الصعب تقديم إجابة حاسمة عن هذا التساؤل، في انتظار معطيات العام الدراسي 2023-2024، لا سيما وأن الاتجاه العام للمدارس الخاصة هو نحو دولرة الأقساط، ما سيدفع فئات كثيرةً إلى التخلي عن المدرسة الخاصة والانتقال إلى المدرسة الرسمية مجدداً.

أثر النزوح العكسي

تشير المعطيات الإحصائية إلى تغيير في توزيع التلامذة بين المحافظات، حيث تراجعت حصة بيروت وضواحيها الشمالية والجنوبية في العام 2020/ 2021، وبلغ التراجع نسبة 2.1% قياساً إلى النسبة المسجلة في العام 2018/ 2019. وفي الوقت نفسه، نجد أن حصة جميع المحافظات الطرفية (باستثناء البقاع)، قد ازدادت من 59.9% إلى 62.8% في العام الدراسي 2020/ 2021، وبنسبة 62% في العام 2021/ 2022، أي بزيادة تصل إلى 2.9% و2.1% على التوالي.
تؤشر هذه الزيادة على حجم النزوح العكسي من المدن إلى الريف، تحت ضغط الأزمة الاقتصادية، والتي دفعت بالأسر للعودة إلى قراها، والتخلي عن الأسباب التي دفعتها للنزوح إلى المدن، أي التخلي عن "رفاهية" نمط الحياة في العاصمة وضواحيها من أجل التخفيف من التكلفة المعيشية المرتفعة في المدينة مقارنةً بالريف، لا سيما تكلفة الإيجار.

ويمكن القول إن حجم ظاهرة النزوح العكسي هي أكبر من النسبة المذكورة أعلاه، لأن ظاهرة تراجع أعداد التلاميذ الإجمالي ترتبط بهجرة الأسر إلى خارج لبنان.

هل هناك تسرّب مدرسي؟

يُظهر التدقيق في المعطيات الإحصائية الخاصة بتوزع التلامذة في لبنان، بحسب الجنسيات في التعليم العام، في دوامي قبل الظهر وبعده، تأرجحاً في أعداد التلاميذ المسجلين في المدارس الرسمية والخاصة بنسب بسيطة، حيث نجد أن عدد التلامذة اللبنانيين قد تراجع بنسبة تصل إلى 1% خلال أربع سنوات (العام الدراسي 2020/ 2021 مقارنةً مع ما قبل الأزمة في 2018/ 2019)، وهو بدأ في العام الدراسي 2020/ 2021، أي بعد تفجير المرفأ وبنسبة 0.7%، ليُستكمل في 2021/ 2022، بوتيرة أقل وبنسبة 0.3%.

في المقابل، ازداد عدد التلامذة السوريين بنسبة تصل إلى 10.8%، في العام الدراسي 2020/ 2021، مقارنةً بالعام 2018/ 2019، بعد أن شهد انخفاضاً في عامي 2019/ 2020 و2020/ 2021.

وخلافاً لتقارير عدة صدرت مؤخراً، وتشير إلى انخفاض في أعداد التلامذة، وإلى أن أسراً عدة قد اضطرت إلى إخراج أبنائها من التعليم، يظهر التدقيق في الأرقام المختلفة ازدياداً في عدد التلامذة الملتحقين بالتعليم من 1،170،000 في العام الدراسي 2018/ 2019، أي قبل بدء الأزمة، إلى 1،185،000 في 2021/ 2022.

ويلاحَظ أن التراجع طال فقط الطلاب اللبنانيين، وبنسبة 1% خلال أربع سنوات، ويمكن ربط هذا التراجع الطفيف في عدد التلامذة اللبنانيين بحركة الهجرة التي ارتفعت بشكل كبير بعد تفجير مرفأ بيروت في آب/ أغسطس 2020. غير أن زيادة أعداد التلامذة السوريين بنسبة 10.8% يشير وبشكل واضح إلى تحسن عملية الاستقطاب التي تقوم بها المنظمات المعنية في خطة الاستجابة للأزمة السورية في لبنان.

في المحصلة، لا تُعبّر زيادة حصة التعليم الرسمي من إجمالي التعليم في لبنان، كما زيادة حصة المحافظات الريفية من إجمالي التوزع الجغرافي لعملية التعليم، عن مسار إيجابي للتعليم الرسمي، بقدر ما هو تعبير عن زيادة حجم التهميش للفئات الأكثر فقراً في لبنان.

لطالما كان التعليم الرسمي هو أحد أبرز السبل للترقي الاجتماعي في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، إلا أنه وفي ظل الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي يعيشها المجتمع اللبناني، وفي ظل تراجع نوعية التعليم وكميته اللتين يحصل عليهما التلامذة في التعليم الرسمي، فإن عملية تهميش الفئات الأكثر فقراً سوف تزداد، وستعمّق الفرز الطبقي بين الفئات الاجتماعية اللبنانية.

Previous
Previous

Trust and Integrity: The Cornerstones of ARA's Research Services

Next
Next

Why Are the Gulf Countries Leading the Way in Technological Development?